قاسم يوسف – أساس ميديا
تقاطعات وتناقضات كثيرة طغت على ملف تعديل مرسوم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. وإذا كان هروب الرئيس ميشال عون من توقيع المرسوم بإعادته إلى مجلس الوزراء مفهوماً إلى حدّ كبير، لكونه ينطلق من رغبته الشخصية بمغازلة الإدارة الأميركية الجديدة، وإعادة تدفئة العلاقات الباردة بينها وبين الوزير جبران باسيل عقب فرض العقوبات عليه، فإنّ موقف قيادة الجيش، أقلّه لجهة فتح الملف وإعادة خلط الأوراق، والموقف الناريّ المباغت للقوّات اللبنانية، والذي عبّر عنه النائب جورج عدوان في مؤتمر صحافي، بالإضافة إلى صمت حزب الله المريب، كلّ هذا يطرح جملة من علامات الاستفهام التي تحتاج إلى الكثير من التمحيص والتدقيق.
يؤكّد البعض أنّ موقفاً بهذه الحساسية التي تتجاوز الجانب التقنيّ البحت إلى أبعاد سياسية شديدة التعقيد، لا يمكن أن يمرّ عبر قيادة الجيش، تحديداً، من دون ضوء أخضر أميركي لا لبس فيه، وهو ضوء يختلف على نحو جذري عن الموقف الرسمي الأميركي الذي لم يتغيّر. ويُشير أصحاب هذه النظرية إلى أنّ إعادة فتح الملف في هذا التوقيت قد تنطوي على رسالة أميركية موجّهة إلى إسرائيل ضمنيّاً، وهم يستندون في ذلك إلى تجاذب أميركي – إسرائيلي أعقب وصول الإدارة الأميركية الجديدة، معتبرين أنّه تجاذب مستجدّ تجاوز منطق الاختلاف والتمايز ولامس حدود توتّر ضمنيّ يرتبط بجملة ملفّات مطروحة أخذت تتبلور وتتّضح تباعاً،. ومنها المفاوضات غير المباشرة في فيينا حول الاتفاق النووي مع إيران، والتي سعت إسرائيل، ولا تزال، إلى ضربها وإفشالها عبر كل الوسائل الممكنة والمتاحة.
وهنا تماماً تكمن الأهمية الاستثنائية لصمت الحزب المطبق، وركونه، على غير عادته في ملفّات مماثلة، إلى “ما تقرّره الدولة”، بحسب كلام الأمين العام لحزب الله. ويرى المتابعون أنّ الحزب رابحٌ في كلتا الحالتين، إن لجهة استخدام الملف في سبيل الضغط لتمرير الاتفاق مع إيران، وإن لجهة تطييره برمّته، وخلق المزيد من التعقيدات التي سيستند إليها الحزب لاحقاً في سرديّته التبريريّة للدور المستجدّ لسلاحه في حماية الحدود البحرية.
لكن ماذا عن الموقف المباغت للقوّات اللبنانية؟
في الشكل، بدت القوات وكأنّها وضعت كلّ ثقلها في مقاربة هذا الملف، إن لجهة تخصيصه بمؤتمر صحافي، وإن لجهة إسناد هذه المهمّة إلى النائب جورج عدوان، وهو نائب رئيس الهيئة التنفيذية وأحد أبرز وجوه حزب القوات التشريعية. وقد دعا عدوان رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب إلى “عقد جلسة مجلس وزراء غدا، إن لم يكن اليوم، لتعديل المرسوم رقم 6433 وإرساله فورا الى الأمم المتحدة، وأتمنى عليه أن يضع كل الاعتبارات أيّاً كان نوعها جانبا أمام المصلحة الوطنية الكبرى”. وتوجّه إلى رئيس الجمهورية ميشال عون مطالباً إيّاه بأن “يوقّع المرسوم لأنّه مؤتمن على المصلحة الوطنية الكبرى وعلى الدستور”. كما توجه عدوان إلى اللبنانيين “ليقفوا خلف دولتهم والوفد المفاوض، وأطلب منهم أن ننسى كل الاعتبارات والحسابات الصغيرة أمام المصلحة الوطنية، حتى يشعر اللبناني المفاوض أن وراءه كل الشعب اللبناني”.
أمّا في المضمون، فقد بدا الموقف الحازم وكأنّه ينطوي على أحجية مثيرة للاهتمام، ولا سيّما لجهة الضغط على رئيس حكومة تصريف الأعمال ودعوته إلى عقد جلسة وزارية عاجلة لتوقيع المرسوم، أو دعوة رئيس الجمهورية إلى توقيعه فوراً في حال عدم انعقاد الجلسة.
القوات خلف الجيش فقط؟
أكّدت مصادر القوات اللبنانية لـ”أساس” أنّ “موقفها يستند إلى عاملين أساسيّيْن، الأول مبدئي ونهائي، وهو يتعلق بالمحافظة والإصرار على آخر شبر من حقوق لبنان في مياهه الإقليمية، وهو يشمل الحدود مع إسرائيل بمقدار شموله الحدود مع سوريا، فالسكوت على قضم حدودنا الجنوبية سيبرّر لاحقاً قضم حدودنا الشمالية. أمّا الثاني فهو يتعلّق بالثقة المطلقة التي توليها القوات لمؤسّسة الجيش اللبناني وقيادته ولكل ما يتعلق بموقفها ورأيها التقني في هذا الملف”.
وأشار المتابعون لهذا الموقف إلى أنّ القوات تسعى إلى استخدامه في اللعبة السياسية الداخلية، عبر الإشارة إلى هروب ميشال عون من التوقيع، وتنازله عن حقوق لبنان المؤكّدة، وهذا تماماً ما عمد إليه مؤيّدوه ومحازبوه حين أطلقوا حملة تخوينيّة مركّزة على الوزراء الذين تريّثوا قبل التوقيع. وتسعى أيضاً إلى إحراج حزب الله وتعريته، وخصوصاً بعد صمته المطبق وهروبه إلى الصفوف الخلفية.
خطأ القوات
قد يصحّ استخدام هذا الموقف في اليوميّات والمماحكات الداخليّة، لكنّ لهذا الموقف وجهاً آخر، وهو وجه استراتيجي تُغفله القوات لصالح انهماكها بتسجيل النقاط. فقد يُسفر الضغط من أجل تعديل المرسوم عن تعديله بالفعل، مُعيداً عملياً الأمور إلى نقطة الصفر بإلغاء اتفاق الإطار بين لبنان واسرائيل الذي رعته أميركا والأمم المتحدة، وتحويل الحدود المتنازع عليها إلى شمّاعة جديدة تشبه مزارع شبعا. وهذا تماماً ما يريده حزب الله ويصبو إليه.
تقتضي المصلحة الوطنية العليا الالتزام بما اتُّفق عليه وأُودع في الأمم المتحدة، لأن البديل سيكون مُدمّراً، إذ لن نستعيد شبراً إضافياً واحداً، ولن نستطيع أن نباشر استخراج النفط والغاز، وسيظل الملف عالقاً إلى ما لا نهاية، حاله حال كلّ الملفات التي تُقدّم لحزب الله على طبق من ذهب.
أخطأت القوات اللبنانية في مقاربتها لملفٍّ بهذه الحساسية، وأخطأت أيضاً في إدخاله ضمن لعبة التراشق الداخلي، وهي مدعوّة بصدق لإعادة النظر في المشهد برمّته، بعيداً من الحسابات الضيّقة أو الخطوات غير المحسوبة.