علي هاشم
دخل عباس عراقتشي غرفة الاجتماعات في الفندق الذي يستضيف المفاوضات في فيينا حاملا في جعبته خبرا من مفاعل نطنز الذي كان قبل أيام فقط محور الأخبار. المفاعل النووي الواقع وسط إيران والذي تعرض لعمل أمني هجومي تسبب بعطل كهربائي كبير أدى بدوره إلى تعطيل مئات أجهزة الطرد المركزية، بدأ بتخصيب اليورانيوم بنسبة 60 بالمئة.
قبل أيام، وخلال ساعات قليلة من الحادثة، كانت وسائل إعلام غربية وإسرائيلية تشير إلى أن ما وقع في نطنز كان بفعل يد إسرائيلية طويلة تمكنت للمرة الثانية خلال أقل من عام من تنفيذ عمل أمنى داخل المنشأة النووية الحساسة، وللمرة الثالثة من تنفيذ مهمة ضد هدف نووي في إيران، إذا ما احتسبنا أيضا اغتيال العالم الإيراني محسن فخري زاده، والذي وقع في وضح النهار في منطقة قرب العاصمة طهران.
في الحسابات المباشرة، قفز محللون إسرائيليون لخلاصة مفادها أن إيران تفقد بعد هجمة نطنز الأخيرة ورقة كبيرة على طاولة المفاوضات، اذ أنها لن تستطيع لمدة طويلة تخصيب اليورانيوم في المنشأة.
وذهب مراسل القناة 13 الإسرائيلية للشؤون الدفاعية ألون بن دايفيد للتأكيد أن الولايات المتحدة من خلال قنوات أمنية واستخبارية أبدت ارتياحها للضرر الذي أصاب المنشأة.
لكن ردود الفعل الأميركية اللاحقة عكست نوعا من التحفظ غير المعلن، ولعل الاجتماع الذي انعقد بعد الهجوم مباشرة تحت عنوان التنسيق الاستراتيجي بين أميركا وإسرائيل حول إيران عكس رغبة واشنطن القوية في التأكيد على مبدأ “صفر مفاجآت” فيما يتعلق بالخطوات الإسرائيلية في مواجهة طهران.
لاحقا نقلت القناة الثانية عشر الإسرائيلية عن مصادر لم تسمها ارسال واشنطن لإسرائيل رسالة حازمة بضرورة توقفها عن “الثرثرة” حول الهجوم على نطنز لأن ذلك يعرقل الجهود الأميركية لإعادة إيران مجددا إلى طاولة المفاوضات.
بدا جليا لإدارة الرئيس بايدن أن طهران بدل الانكفاء قررت الاستفادة من الهجوم ومن الخرق الأمني الكبير لرفع السقف النووي، بالتالي تجميع عناصر ورقة جديدة للتفاوض عنوانها الأول التخصيب بنسبة 60 بالمئة.
هذه الورقة أصبحت الآن على الطاولة في فيينا، وهي دون شك نقطة تحول خطيرة في البرنامج النووي الإيراني المثير للجدل. فعلى رغم أن الكمية المخصبة محدودة للغاية، الا أن حقيقة أن البرنامج النووي أصبح مستقلا بالكامل عن الخارج، وأن عملية التصنيع والتعدين والتخصيب وما إليه من مراحل مطلوبة، كلها تجري منذ زمن داخل إيران، يؤكد مبدأ أنه لم يعد ممكنا ضبط إيقاع الحركة النووية الإيرانية أو عرقلتها حتى ولو من خلال اختراقات أمنية. ما يمكن أن يحدث في أسوأ الأحوال تأخير لعدة أشهر تعود إيران بعده إلى المكان الذي كانت فيه، واختراق نطنز الأول في العام الماضي خير دليل على ذلك. فرغم الحديث الأولي عن تأخير البرنامج تسعة أشهر على الأقل، بدا أنه كان سريعاً في تعويض خسائره وتحقيق خطوات أخرى إلى الأمام.
في هذا الإطار ذكر رئيس مؤسسة العلوم والأمن الدوليين ديفيد البرايت في سلسلة تغريدات على تويتر أن إيران بعد الضرر الذي لحق بمفاعل نطنز يمكن أن تكون أمام أربع سيناريوهات فيما يتعلق بالمسافة الزمنية التي تفصلها عن صناعة القنبلة النووية والذي كان قبل الحادث بين شهر ونصف تقريبا إلى شهرين. أما بعد الحادثة ففي أسوأ الحالات ستكون إيران بعيدة 9 أشهر وفي أقلها سوءا ثلاثة اشهر.
في المبدأ، حتى إعطاب ألف جهاز طرد مركزي لن يكون مشكلة ضخمة بالنسبة لإيران، لأنها عند الاتفاق في فيينا 2015 وافقت على سحب حوالي 13 ألف جهاز طرد مركزي من العمل ليكونوا في المخازن المخصصة لهم، لذا فاستبدال المتضرر لن يكون أمرًا مستحيلا، هذا إذا لم نأخذ بعين الاعتبار واقع أن طهران بدأت منذ مدة العمل على أجيال جديدة من أجهزة الطرد المركزية، والتي لديها قدرة أسرع على التخصيب، إلى جانب جهاز الطرد المركزي الأخير الذي أعلنت عنه IR9 والذي لا يزال في مراحل التجارب.
ما يحدث بين نطنز وفيينا هو تثبيت لمسارين متوازيين، مسار تفاوضي يوصل إلى استعادة الاتفاق النووي بما كان عليه عشية الانتخابات الأميركية التي جاءت بدونالد ترامب لرئاسة أميركا، أو واقع نووي بمستوى تخصيب 60% عشية انتخاب إيران هذا العام لرئيس جديد يحل مكان حسن روحاني ولا يحمل إرث اتفاق نووي متعثر. ما تخشاه أميركا أن يكون هجوم نطنز ما كانت تنظره طهران لتظهير تقدم نووي موازٍ غير معلن حققته خلال السنوات الماضية بعيدا عن الأنظار.
هكذا سيناريو قد يكون مرعبا بالنسبة لأميركا والغرب بشكل عام، لأنه سيعني أن طهران تسبق خصومها بخطوتين ما يجعلها غير قابلة للضبط وما يجعل العودة للتسوية النووية أفضل الحلول لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. مع ذلك فواشنطن تقاوم تسليم ورقة لطهران قد تضر بمصالح حلفائها في المنطقة بشكل كبير، رغم أن هؤلاء الحلفاء بدأوا الآن يتمايزون عن بعضهم في التعبير عن موقفهم من الاتفاق النووي ومن التوصل إلى إحياء التسوية النووية.
ما يحدث بين نطنز وفيينا هو تثبيت لمسارين متوازيين، مسار تفاوضي يوصل إلى استعادة الاتفاق النووي بما كان عليه عشية الانتخابات الأميركية التي جاءت بدونالد ترامب لرئاسة أميركا، أو واقع نووي بمستوى تخصيب 60% عشية انتخاب إيران هذا العام لرئيس جديد يحل مكان حسن روحاني ولا يحمل إرث اتفاق نووي متعثر.
فالموقف السعودي الأخير مثلا بدا وكأنه يتفق أكثر مع الأميركي وأبعد عما كان يعبّر عنه قبل شهرين لجهة التأكيد على أهمية إحياء الاتفاق النووي ليكون نقطة انطلاق لمزيد من المناقشات التي تشارك فيها دول المنطقة بهدف توسيع بنود الاتفاق، مع التأكيد أن أي اتفاق لا يبدد بفعالية المخاوف ذات الصلة ببرنامج إيران الصاروخي ودعمها لوكلاء إقليميين لن يكلل بالنجاح.
بالعودة إلى خط طهران واشنطن في فيينا، الواضح حتى اللحظة أن طهران تذهب إلى المفاوضات برغبة حقيقية في العودة إلى التسوية النووية لا أكثر ولا أقل. وأرسلت طهران في هذا الإطار أكثر من إشارة لتأكيد أنها في هذا المرحلة تحديدا ملتزمة استراتيجيا بأن يكون برنامجها النووي تحت اشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية في حال كان الثمن لذلك رفعا حقيقيا للعقوبات بما يعنيه ذلك من استفادتها من ذلك اقتصاديا.
أما الخيار الآخر، وهو خيار تخصيب الستين بالمئة وسلوك مسار مغاير للدبلوماسية، فهذا قد يعني في حال عدم التوصل لتسوية حقيقية تحولا استراتيجيا على مستوى نظرة إيران لعلاقتها مع الغرب، وعقيدتها النووية، ومنظومة ردعها الاستراتيجية، وهذا ما لا يبدو أنه الخيار المفضل لدى أصحاب القرار في إيران لأنه سيعني أيضا وضع خيارات قاسية على طاولة الخصوم بعدما كانوا قد نجحوا على مدى الأعوام الماضية في استبعادها.