لا لإسقاط “اتفاق الطائف”!


كتب رامي الريس…

قيل الكثير في اتفاق الطائف، وكتب عنه المئات من التحليلات السياسيّة. البعض منها عكس تذمراً من أصل الاتفاق ومضمون نصوصه، والبعض الآخر مجّده ورفعه إلى رتبة النصوص المقدسة التي يُفترض ألا تُمسّ.

القاعدة الثابتة ألا قداسة في السياسة التي تقوم على الواقعيّة، الفظة أحياناً، ما يجعلها على طلاق تام مع الأخلاق، وهذه أيضاً مشكلة موجودة في أكثر الأنظمة الديمقراطيّة في العالم، فكم بالحري في الديمقراطيات الناشئة أو المشوهة كالحالة اللبنانيّة، أو في الأنظمة القمعيّة التسلطيّة التي لا تقدس سوى القائد ولو دُمرّت البلاد (والنماذج العربيّة عديدة وساطعة في هذا المجال).

صحيحٌ أن اتفاق الطائف ليس مقدّساً، ولكن الصحيح أيضاً أنه اتفاق مرجعي ميثاقي أرسى قواعد جديدة للعمليّة السياسيّة في لبنان، وأعاد توزيع الصلاحيّات الدستوريّة ورسم الحدود بين المؤسسات وفق موازين جديدة. ليس ثمة اتفاقاً ينهي نزاعاً مسلحاً لا يعكس موازين القوى السائدة لحظة توقيعه. اتفاق الطائف ليس إستثناءً، وكذلك اتفاق الدوحة (2008) الذي أدخل بدوره أعرافاً جديدة متمايزة عن “الطائف” في المضمون والممارسة.

لحظة اتفاق الطائف كانت لحظة تقاطع أميركي- عربي كبير عقب السقوط المدوّي للاتحاد السوفياتي، وشكلت مظلة سياسيّة وأمنيّة كبرى أتاحت إزالة المتاريس العسكريّة وإعادة توحيد العاصمة وفتح الطرقات ووصل المناطق التي تشرذمت في حقبة النزاع الدموي. ولاحقاً، مع الغزو العراقي للكويت (1990) وتشكيل التحالف الدولي لتحرير الكويت بقيادة الولايات المتحدة الأميركيّة، حقق الرئيس السوري حافظ الأسد ضربته التاريخيّة بالانتقام من فرع البعث العراقي وصراعه القديم مع صدام حسين وذلك من خلال الالتحاق بالتحالف ومن ثم الحصول على صك الوصاية المطلقة على لبنان التي استمرت حتى العام 2005 بعد إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.

خلاصة القول إن لكل اتفاق ظروفه وحيثياته ومعطياته. لذلك، فإن أي حديث في المرحلة الراهنة عن مؤتمر تأسيسي بهدف إنتاج عقد سياسي واجتماعي جديد، لا يعدو كونه ذراً للرماد في العيون، لا بل هو قفزة في المجهول ومغامرة غير محسوبة النتائج. وفق موازين القوى الحاليّة، وهي شديدة الاختلال محليّاً وإقليميّاً، أي اتفاق جديد سوف يعكس ذلك الاختلال بشكلٍ عميق ويكرّسه في المعادلة السياسية والنصوص الدستوريّة.

قد يقول أحدهم إن هذا الاختلال قائم راهناً، وهو يعكس نفسه في الممارسة السياسيّة، تارةً من خلال تعطيل المؤسسات الدستوريّة لمصالح فئويّة خاصة، وتارة أخرى من خلال تأخير الاستحقاقات الديمقراطيّة (الانتخابات الرئاسيّة مثالاً ساطعاً) بهدف تحقيق أهداف معيّنة. هذا صحيح بكل تأكيد ولكنه بمثابة تعد على الدستور والقانون والأصول الديمقراطيّة التي لا يأبه لها المعطلون الذين يسعون لفرض أعرافٍ جديدة، فماذا لو كرسوها من خلال اتفاق مكتوب يعلو إلى مرتبة الاتفاق الميثاقي والعقد الاجتماعي؟

في اتفاق الطائف العديد من العلل السياسيّة والدستوريّة والتنفيذيّة، وبعضها قد يكون محقاً، ولكنه الاتفاق الذي أرسى الاستقرار في البلاد وأسكت المدفع بعد مرور 15 عاماً على اندلاع الحرب التي مرّت ذكراها

الـ46 منذ أيّام قليلة. هو ليس مقدّساً. هذا أمر حتمي ومحسوم، ولكن حتى اللحظة ليس هنالك ما يشجع على خوض مغامرة استبداله بما قد يكون أسوأ منه. لماذا لا نذهب إلى تطبيقه بالكامل قبل المطالبة بتغييره؟ إلغاء الطائفيّة السياسيّة وتطبيق اللامركزيّة الإداريّة والإنماء المتوازن هي بنود جوهريّة قادرة على تحقيق تحوّل نوعي في الحياة الوطنيّة اللبنانيّة، وعندئذٍ يمكن التفكير بصيغة سياسيّة جديدة.

إلى حين تحقيق ذلك، فلتصمت بعض الأصوات الصبيانيّة من هنا وهناك التي تطالب بتغييره وإسقاطه!

Exit mobile version