أمين قمورية | 180Post
يضع السعي التركي للتقارب مع مصر تنظيم “الاخوان المسلمين”، لا سيما جناحهم المصري، في مأزق جديد. إلى اين سيتوجه تلامذة حسن البنا وسيد قطب اذا ما صارت تركيا من أمامهم ومصر من ورائهم؟
يتهيأ “الاخوان المسلمون” لدخول مرحلة جديدة، في ظل بوادر مصالحة تركية مصرية ترتفع حظوظها بعد سنوات من القطيعة، وكان المبادر إليها، في أيلول/ سبتمبر الماضي، الجانب التركي الذي وجّه سلسلة رسائل دافئة إلى الجانب المصري، بلغت ذروتها مع القرار التركي القاضي بإجبار المحطات المعارضة المصرية التي تبث من أراضيها وقف أي هجوم على النظام المصري ورئيسه، وهو ما يمثل نقطة تحول في الصراع بين الدولتين، سرعان ما وجد ترجماته في التسوية الليبية التي كان المصريون والأتراك شركاء فيها على حساب الفرنسيين، كما في استبعادها مصر منطقة الجرف القاري (التي تدعي تركيا ملكيتها) من تعاقدها مع شركات التنقيب في المنطقة الاقتصادية الخالصة لها في شرق البحر المتوسط.
هذا التفسير، وإن كان يحفظ ماء وجه الرئيس التركي رجب طيب اردوغان ولا يظهره بمظهر المهرول، إلا انه تفسير حمال للأوجه، فاتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان، لم تتضمن منطقة “الجرف القاري”، حيث اكتفى الطرفان بتوقيع اتفاق جزئي خاص بهما، تاركين المناطق المتنازع عليها مع الجانب التركي إلى جولات مقبلة.
وعليه، فإن ما فعلته مصر لا يعدو كونه تحرك في نطاق اتفاقها المبرم مع اليونان في تشرين الأول/ أكتوبر 2020.
أما التفسير الثاني، فهو أن أردوغان يسعى لاستمالة مصر لتوقيع اتفاقية ترسيم حدود بحرية معه، مثل تلك التي وقعها مع حكومة الوفاق الليبية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، وبذلك تعزز تركيا موقفها في مواجهة قبرص واليونان، بعدما جرى إقصاءها عن منتدى غاز شرق البحر المتوسط، الذي يضم كلاً من: مصر، الأردن، فلسطين، إسرائيل، اليونان، قبرص وإيطاليا.
ولا يمكن للتقارب التركي المصري إلا أن يوضع في ميزان التغيير الذي حصل في الولايات المتحدة مع وصول الديموقراطيين الى البيت الابيض، ففي الوقت الذي يعاني أردوغان من ضغوط أوروبية، يأتي بايدن إلى الحكم محملاً بكل تلك النقاط السلبية لأنقرة سواء في ما يخص صفقة صواريخ اس 400 الروسية، أو معارضة تركيا لدعم التحالف الدولي لقوات سوريا الديمقراطية لمحاربة الإرهاب في شمال سوريا.والاهم من ذلك كله الموقف الذي يتخذه فريق جو بايدن من قضايا حقوق الإنسان في تركيا.
انتخاب بايدن المتزامن مع تزايد وتيرة الضغوط الأوربية على أنقرة، والاقتصاد التركي المتدهور، وتردي العلاقات التركية مع العواصم العربية الفاعلة، يشي بأن أردوغان يبحث عن حلفاء جدد، شرقاً وغرباً. فهل قرر جعل جماعة “الإخوان” كبش فداء خيار التهدئة مع كل من القاهرة والرياض؟
نعم على الأرجح، فهذا الخيار يؤمن له مكاسب عدة في حال تطوره، وصولاً إلى تشكيل حلف غير معلن مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، حيث أن الثلاثة يقفون على مسافة واحدة من إدارة بايدن.
وبعدما كان دعم أنقرة لـ”الإخوان المسلمين” خلال ما يسمى “الربيع العربي” متناغماً مع إدارة أميركية ديموقراطية، كانت تسعى إلى تعميم النموذج التركي في العالم العربي السني (سوريا ومصر وتونس وليبيا)، فإن ما أصاب هذا التنظيم من ضربات وصولاً إلى إدارج تنظيمات محسوبة على “الإخوان” مطلع هذه السنة في لوائح الإرهاب الأميركية، أدى إلى إرباك التنظيم نفسه الذي بات يشعر بأن الخناق يضيق حوله أميركياً وأوروبياً وعربياً (بإستثناء قطر)، وبالتالي بات عليه أن يكون أكثر واقعية وأن يتخلى عن فكرة السلطة سواء في مصر أو في غيرها من الدول.
ولذلك، يمكن القول إن ملف الإخوان سيكون عنصراً محدداً في مسار المصالحة المصرية ـ التركية، فالقاهرة تريد من انقرة ان تسرع الاجراءات المتعلقة بوقف النشاطات السياسية والخيرية لـ”الاخوان” ومصادرة اموالهم واغلاق قنواتهم التلفزيونية بالكامل، كما طالبت القاهرة أيضاً بتسليم العناصر المصرية التي كانت في صفوف تنظيم “داعش” وحصلت علي الجنسية التركية بعد عودتها من سوريا إلى الأراضي التركية، فضلاً عن تسليم يحيى موسى وعلاء السماحي، المتهمين بتأسيس حركة “حسم” الذراع المسلحة لجماعة الإخوان، وبالتخطيط لاغتيال النائب العام في مصر هشام بركات والمدرجين على لائحة الارهاب الاميركية، لكن تركيا طلبت التمهل في هذه القضية تحديداً.
واذا كانت بعض الوجوه “الاخوانية”، قد امتنعت عن انتقاد تركيا ظناً منها أن عناصر التباعد أكبر من عناصر التقارب بين مصر وتركيا، فان بعض الاصوات داخل الهيئة السياسية لجماعة “الإخوان” دعت إلى اغتنام الموقف التركي الجديد، من اجل فتح حوار مع الحكومة المصرية. وفعلاً فان هؤلاء سارعوا الى اسقاط مطلب الافراج عن جميع السجناء واتهام السيسي بأنه تولى السلطة بشكل غير قانوني عام 2013، وبدلاً من ذلك، طالبت هذه الجماعات السلطات المصرية بتحسين اوضاع المعتقلين السياسيين. وفي مقابلة أجراها القائم بأعمال المرشد العام ابراهيم منير في 20 آذار/ مارس الماضي، صرح أن “الإخوان” على استعداد للتواصل مع الحكومة من خلال وسيط تركي من أجل حل ما أسماها “المسائل المتنازع عليها”، من دون استخدام كلمة “انقلاب”.
هذا الموقف لاقى اعتراضاً من اصوات “اخوانية” اخرى، تصر على ان يواصل التنظيم حربه على الحكومة المصرية ومطالبتها بالإفراج عن جميع السجناء. ويتألف هذا المعسكر من شخصيات رفيعة المستوى، أمثال الناطق السابق باسم “حزب الحرية والعدالة” حمزة زوبا، إلى جانب آخرين فقدوا الأمل بالعودة إلى مصر من دون الدخول إلى السجن.
في ظل هذا التخبط، ضاقت الخيارات المتاحة أمام “الاخوان” المقيمين على الاراضي التركية، وباتوا يميلون الى الاعتقاد بأن أنقرة لن تتساهل بعد الآن بشأن السماح لهم باستئناف خطابهم التحريضي السابق. وتالياً، من غير المرجح أن يبقى الكثير منهم في تركيا لفترة أطول.
لكن إلى أين المفر؟
ثمة وجوه بارزة (الصف الأول)، لا سيما تلك التي تملك مقدرات مالية أو علاقات سياسية، تفضل الإبتعاد عن دول المنطقة برمتها وبينها قطر نظراً الى سجلها الحافل بطرد اقرانهم ولا سيما بعد إعادة إحياء علاقاتها مع مصر. وهذا يعني أنهم قد يتوجهون إلى الولايات المتحدة أو كندا أو بريطانيا، بحسب ما ذكر بعضهم، لكن بشرط موافقة هذه الدول على إستقبالهم.
في المقابل، ماذا سيكون مصير القيادات الوسطية والدنيا والعديد من الناشطين العاديين، الذين لا يملكون غير جوازات سفر مصرية منتهية الصلاحية ويعيشون في تركيا بتأشيرات مدتها عام واحد
؟ يظهر من خلال المناقشات التي تدور عبر وسائل التواصل الاجتماعي ان هؤلاء يتداولون خيارات مثل قطر وماليزيا وبعض العواصم الأوروبية، حتى أن اليأس دفع بصحافي منهم الى البوح بأنه يستكشف فرصا مهنية مع قنوات إخبارية إسرائيلية في تل أبيب تبث بالعربية!
في اي حال فان السلطات المصرية لم تبد اية حماسة لعودة المنفيين الى بلدهم حتى لا يتحولوا الى مصدر محتمل للضغط في مجال حقوق الانسان، على ان تواصل ملاحقتهم بتهم ارتكاب جرائم ارهابية ضد الدولة، طالما هم في الخارج. وفي المقابل، ثمة اعتقاد ان لا خوف على “الإخوان” في تركيا طالما بقي أردوغان في السلطة، ذلك أن النظام السياسي التركي يتوافق فكريا وسياسيا مع توجهات التنظيم الدولي، ولن يسعى للتقارب أو التفاوض مع مؤسسات الدولة المصرية إلا إذا كان هناك تنسيق مع قيادات الجماعة التي ترغب في إيجاد هامش أو مساحة تمنحها تخفيف الضغط على أتباعها في الداخل وإعادة تموضع التنظيم، إذ أن الجماعة تدرك أنها لن تتمكن من إحياء وجودها إلا من خلال ما يعرف باستراتيجية “دار الأرقام”، وتعني انكفاء التنظيم على نفسه والتعايش مع أدبيات الجماعة ومنظريها لإعداد أجيال جديدة تتأثر بالمنهجية الفكرية للمشروع الإخواني بعيداً عن الدخول في صراعات مع النظام السياسي.
يخلص هؤلاء إلى أن أردوغان يواجه إستحقاقي الإنتخابات البرلمانية والرئاسية، ويريد تحسين أوضاع بلاده الإقتصادية والمالية، وبالتالي كسب المزيد من الوقت، للوصول إلى ما يضمن فوزه في الإنتخابات، وبعدها يكون يوم آخر، لا سيما وأنه أثبت قدرة على ممارسة البراغماتية التي تضمن إستمراره بالسلطة، وأحد ركائز ذلك عدم المس بالبنية التحتية لحزب العدالة والتنمية.