باستثناء قلة من المنتفعين من النظام الحالي، فان الأغلبية فقدت الأمل من قدرة هذه الطبقة الحاكمة على معالجة الأزمة الهائلة التي يتخبط فيها لبنان. كيف لا، وكل ما يجري يُضمر نية خفية بنقل عبء الأزمة إلى المواطنين، من دون أن تكون هناك أي نية للإصلاح وتحسين الأوضاع في المستقبل. وهذا ما ظهر جلياً في حلقة “webinar-النقاش عبر الويب” التي نظمها مركز المشرق للشؤون الإستراتجية “LISA” بمشاركة نخبة من الإقتصاديين والمصرفيين وقادة الرأي. وبالأرقام فان نسبة “الهيركات” المقنع على الودائع تخطت 70 في المئة. أمّا الودائع في القطاع المصرفي فقد تراجعت منذ بداية العام 2019 ولغاية نهاية شباط من العام الحالي بقيمة 35 ملياراً و400 مليون دولار”، بحسب مسؤول فريق الأبحاث الإقتصادية في بنك بيبلوس نسيب غبريل. “55 في المئة من هذا التراجع ذهب على تسديد القروض. فتراجعت الأخيرة بقيمة 23 مليار دولار في هذه الفترة”. وهذا ما يعني عملياً تراجع مطلوبات المصارف بنسبة كبيرة، أو تخفيض دينها على حساب المودعين.
“الترقيع” لم يعد ينفع
المشكلة اللبنانية لم تعد تقنية، بل هي في جوهرها “أزمة ثقة”، يقول الخبير في الشؤون المصرفية إياد بستاني، و”من المستحيل استعادة الثقة في ظل هذا النظام السياسي الإقتصادي”. وعليه فانه مع حكومة أو من دونها، مع إعادة جدولة الدين العام من عدمه، مع إعادة هيكلة القطاع المصرفي أو تركه “زومبي” بنك فان كل الإجراءات أصبحت عقيمة. أمّا الحلول فستكون ترقيعية وما “نقطبه” اليوم “سيتفتق” غداً من مكان آخر. ولا حل جذرياً إلا بخطوتين كبيرتين برأي بستاني:
الأولى، الإقرار بأن الأموال لم تعد موجودة. وما يرتبه هذا الإعتراف من متطلبات الإنتقال إلى “استراتيجية قطع الذراع”، أو ما يعني إقتصادياً إعادة التوازن الفعلي إلى الحسابات ومساواة الموجودات بالمطلوبات.
وفي هذه المرحلة تتوقف الدولة عن سداد الدين، وتقدم المصارف ميزانيات جديدة برأسمال صفر، لأنها مفلسة في الحقيقة، ويتحمل المودعون جزءاً من الخسائر. ويتم الإتفاق على توزيع الخسائر بين جميع الأطراف على قواعد واضحة.
الثانية، تأمين السيولة من خلال إعادة بناء الثقة وليس عبر ضخ الرساميل. ذلك أن فقدان الثقة ستمتص رؤوس الأموال مهما كانت كبيرة، في حين أنه من الممكن معالجة الأزمة بمبالغ أقل بكثير في حال كانت الثقة متوفرة.
كيف تبنى الثقة؟
يجيب بستاني أنه “إنطلاقاً مما كتبه الباحث والسياسي الفرنسي آلان بيرفيت – Alain Peyrefitte، والإقتصادي الحائز جائزة نوبل، كينيث أرو – Kenneth Joseph Arrow. وحتى إذا فتحنا الكتاب الصادر عن الفاتيكان بمناسبة عيد المئة الذي كتبه البابا ليون 13، نرى بوضوح أن بناء الثقة يتم عبر مبدأ “تفريع السلطة”، Principe de subsidiarité. وهو تنظيم إجتماعي ينصّ بحسب التعريف على أنه “يجب التعامل مع القضايا الإجتماعية والسياسية على المستوى الأكثر مباشرة (أو الأكثر محلية) بما يتّسق مع حلّها”. وبحسب بستاني فان “هذا المبدأ يطبّق عبر إعطاء الهيئات المحلية (البلديات) السلطة المطلقة، ونتدرج بالمسؤوليات صعوداً وصولاً إلى الكانتون ومن الكانتون إلى الدولة؛ وهو ما يعرف عملياً بالنظام الفدرالي. وبالتالي فان المطلوب اليوم من وجهة نظره للخروج من هذا المأزق أمران أساسيان: عقد إجتماعي جديد مبني على الفدرالية ونواته الأساسية موجودة على موقع fedleb.org. وتحقيق الخسائر والإعتراف بها دفترياً وكتابتها بشكل صريح في الدفاتر. وهذا الموضوع وإن كان لا يخلق الثقة بحد ذاته فانه يؤسس لواقع حقيقي دفتري ويوقف “حفلة” الكذب.
الخلاص من خطة “العقود المفقودة”
“هذان الأمران يُخرجان لبنان من آتون الخطة الجهنمية التي تتبعها الدولة اللبنانية والمعروفة عالمياً باسم Lost Decade، أي العقود المفقودة (خطة اتبعت في اليابان في فترة من الركود الاقتصادي بعد انهيار فقاعة أسعار الأصول في أواخر عام 1991)”، بحسب بستاني. والهدف منها تحميل المواطنين كل الخسائر من تضخم و”هيركات” على فترة زمنية طويلة تتراوح بين 10 و15 سنة، ومراهنتهم على استيعابها شيئاً فشيئاً.
لكن المشكلة في هذا النهج إذا ما تم اتباعه، برأي بستاني، هو “توقف الإقتصاد عن النمو وتراجع الخدمات وإنخفاض تدفق الرساميل وزيادة معدلات الفقر وتراجع الإستثمارات في الإقتصاد”.”الفدرالية” والحل المنشود
يقوم النظام الفدرالي على فكرة المشاركة مــن الأسفل إلى الأعلى. ويعود تقرير المشـــاريع وتنفيذها وتمويلها إلى البلدية أو السلطة المحلية التي تعتبــر الحلقـــة الأقــوى في هذا التنظيم الإداري. و”في حال عجزها عن إتمام المشاريع الضخمة بسبب صغر حجمها، تقوم الهيئة المحلية باعطاء أو تفويض سلطاتها للجهات الاعلى منها للقيام بالمشروع”، يقول بستاني، و”هذا المبدأ يقوم عليه النظام في سويسرا، ومكرس في البندين الثالث والخامس من الدستور عندهم”.
من وجهة نظر مؤيدي الفدرالية فان فشل النظام محتوم والمطلوب هو عقد إجتماعي جديد يعيد الثقة ويؤمن تدفق الرساميل وعودة الإستثمارات الأجنبية المباشرة. أمّا البقاء في نظام مركزي واستمرار التناحر على السلطة من قبل جهات لا ثقة تجمع بينها… فهو لم يؤدِ فقط إلى هذه الأزمة، إنما سيبقى الوقود لإشعال المزيد من الأزمات في المستقبل مهما فعلنا. فالإقتصاد مات وإكرامه دفنه والبدء بنظام حديث قائم على عقد إجتماعي جديد وإدارة سليمة لمقدرات البلد.
بغض النظر عن المواقف المتناقضة والمتعارضة مع الفدرالية، خصوصاً في ما يتعلق بالخروج من الأزمة الإقتصادية، إلا أنها تبقى فكرة واقعية تغني النقاش بطروحات وإقتراحات جدية في المرحلة الحالية.