مرسوم التعديل أُنجز قبل استقالة حكومة الرئيس حسّان دياب في آب الماضي. كان من المقرّر أن يُعرض من خارج جدول الأعمال في اجتماع للحكومة بطلب من رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ولكنّ قوة خفيّة طيّرته عن هذا الجدول. من هي هذه القوة؟ يقال أن رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل هو الذي طلب حذفه. بعد ذلك برز رأي يقول إنّ من الأفضل أن يُرسله رئيس الجمهورية عن طريق رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة من أجل حفظ حق لبنان بالمساحات البحرية الإضافية، التي يعتبر أنها من حقه ولم ترد في حدود ما ذهب إليه المرسوم الأول 6433.
عملياً قيادة الجيش بدأت العمل على إعادة دراسة الحدود البحرية بعدما تمّ استحداث مصلحة الهيدروغرافيا التي تهتمّ بهذا الإختصاص. وبمساعدة خبراء دوليين تمّ التوصل إلى تحديد هذا الخط الجديد 29 الذي يعطي لبنان نحو 1450 كلم² إضافية على الخط 23 الذي حدده المرسوم الأول. أحيط رئيس الجمهورية علماً بهذا “الإنجاز” الكبير الجديد. فطلب من قيادة الجيش أن تعرض أمامه حيثيات هذه التعديلات على الخرائط وبالأدلة التي تم الإعتماد عليها. بالفعل لبت القيادة الطلب وأجرت عرضاً موثقاً أمامه واقتنع الرئيس بالفكرة وطلب تحويلها إلى مرسوم لإرساله إلى الأمين العام للأمم المتحدة، خصوصاً مع الضغط الأميركي لاستئناف مفاوضات الترسيم بين لبنان وإسرائيل ومع استعداد إسرائيل للبدء بالتنقيب في حقل كاريش، الذي يدخل ضمن الحدود اللبنانية البحرية الجديدة التي يحدّدها المرسوم الجديد. اعتبر الرئيس أنها فرصة مناسبة للمطالبة بما يعتبره لبنان حقّاً له. وبالتالي يمكنه من خلال إثارة هذا الملف القول إنّه يحقّق إنجازاً كبيراً. ولكن كانت هناك عقبات غير ظاهرة. فملف التفاوض حول الحدود البحرية كان بعهدة الرئيس نبيه بري، الذي كان هناك تسليم بالدور الذي يقوم به على هذا الصعيد.
تقول المعلومات أن الوزير باسيل كانت له أيضاً حسابات أخرى لأنه كان يمكنه أن يستثمر في هذا الملف في العلاقة مع الأميركيين، بينما كانت بدأت تظهر إشارات حول إمكانية أن تشمله العقوبات الأميركية. بعض المعلومات يقول إنه كان وراء سحب المرسوم عن جدول أعمال مجلس الوزراء قبل استقالة حكومة الرئيس دياب، لأسباب خاصة تذهب في هذا الإتجاه. وتقول المعلومات أيضاً إن الرئيس نبيه بري لم يكن ضد مشروع هذه التعديلات في الأساس، وإنّ الموضوع استهواه في البداية ولكن بعد صدور العقوبات الأميركية بحق مستشاره الوزير علي حسن خليل، في 9 أيلول 2020، تراجع متفهماً أبعاد القرار الأميركي خصوصاً أن هناك من يعتبر أن مثل هذا القرار كان يمكن أن يشمل أيضاً أفراداً من عائلته، وأنه نتيجة هذا الأمر اختار أن يعلن اتفاق الإطار مع إسرائيل في أول تشرين الأول، للعودة على أساسه إلى طاولة المفاوضات بتدخل أميركي، وباعتبار أن هذا الإتفاق كان نتيجة عشرة أعوام من الجهود الدبلوماسية والتفاوض من وراء الكواليس. ولكنّ بعض منتقدي الرئيس بري اعتبروا أن تكفّله بتبنّي هذا الإعلان كان نكسة له.
الخلاف على موضوع التعديلات على المرسوم والخيارات المتاحة أمام السلطة اللبنانية بدأت قبل أن يعلن الرئيس بري هذا الإتفاق، وقبل أن يعود الوفدان اللبناني والإسرائيلي إلى الإجتماع برعاية الأمم المتحدة والوسيط الأميركي. ولكي يستعيد الرئيس عون زمام المبادرة كان عليه أن يستعيد الملف من الرئيس بري، لكي يذهب نحو إقرار مرسوم التعديلات ويحوله إلى إنجاز له. وعلى هذا الأساس استعان بعدد من المستشارين ومن بينهم طوني حداد الذي أتى من الولايات المتحدة الأميركية لهذه الغاية وليكون قريباً منه في القصر الجمهوري حيث أُعطي مكتباً خاصاً به.
بين المرسوم والرسالة
عندما وردت فكرة الإستعاضة عن المرسوم برسالة رئاسية وافق الرئيس على الأمر وتم إعداد الرسالة. وقعها الرئيس وسُلّمت إلى مدير عام الرئاسة أنطوان شقير ليتولّى تسليمها إلى الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في لبنان يان كوبيتش. ولكن الرسالة لم تصل إلى العنوان المطلوب ولم يتمّ تسليمها. لماذا؟ كان الوفد اللبناني سيشارك في المفاوضات المستأنفة وكان من المطلوب أن تصل هذه الرسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة قبل ذلك حتى يكون موقف الوفد أقوى في التفاوض. تقول المعلومات إن مستشار الرئيس طوني حداد سأل مدير القصر عن الرسالة وعمّا إذا كان تحدّد موعد ليان كوبيتش لتسليمها له. فتلقى ردّاً صادماً بما معناه “ما رح إبعت وراه”. الموضوع لم يعد سرّاً بعدما كان كشف عنه حداد نفسه بعد استبعاده من القصر ومن المستشارية، بعد صدور العقوبات الأميركية في 6 تشرين الثاني الماضي على باسيل الذي اعتبر أنّه من الممكن أن يكون هناك دور لحداد في القرار الأميركي. سأل حداد شقير عن سبب عدم إرسال الرسالة. تقول المعلومات أنّ شقير قال له: “بدّكم تحكوا مع جبران”. ردّ حداد: شو دخل جبران؟ أجاب شقير بما معناه: “ما بعمل شي إذا لم يقل لي جبران”.
“بدي الملف يصير عندي”
ماذا حصل قبل أن يصير مرسوم التعديلات في جارور قصر بعبدا؟
تقول المعلومات إن الرئيس عون اتصل بوسيط كان قريباً منه بعد انقطاع. قال له: “وينك؟ بدي شوفك”. رد الوسيط: “خير انشالله شو في بعد هالسنين؟” كان هذا الوسيط بحسب المعلومات يعرفه من سنوات منذ كان لا يزال في الرابية رئيساً لـ”التيار الوطني الحر”. أضاف الوسيط: “شو فوّقك عليي بعد هالمدة؟”. رد عون: “رزق الله على هيديك القعدات”. هذا الوسيط كان تمّ طرح اسمه ليكون وزيراً في أول حكومة على عهد الرئيس عون ولكنّ تدخل باسيل حال دون ذلك فطار اسمه. تقول المعلومات إن هذا الوسيط وافق على الزيارة. كان لديه موعد عمل. سأل الرئيس عما إذا كان يجب أن يحدّد موعداً للزيارة. ردّ عون بأن “لا داعي لذلك. عندما تأتي أنا ناطرك اليوم”. دخل الوسيط مكتب الرئيس ففتح معه موضوع التعديلات على المرسوم 6433: “بدك تساعدنا بهالموضوع”. تقول المعلومات إنّ الرئيس طلب من الوسيط مسألة محدّدة وهي المساعدة في استعادة ملف التفاوض من الرئيس نبيه بري “لأن لدينا قراءة مختلفة للملف. بدي هالملف يصير عندي”. والمساعدة المطلوبة كانت في الشق المتعلّق بموقف “حزب الله” من المسألة وبإقناع الرئيس بري بهذا الأمر. وبالتالي هل يمكن أن يوافق “الحزب” على أن يصبح ملف التفاوض بعهدة رئيس الجمهورية على أساس التعديلات الجديدة أم لا؟
تقول المعلومات إنه اعتباراً من البدء بالتحضير لهذا التحول كان موضوع التعديلات قد خرج من أن يكون مجرّد دراسة تقنية أعدّتها قيادة الجيش منذ العام 2011، ليصبح مشروعاً سياسياً يحمله الرئيس ميشال عون. بهذا المعنى هو ليس مشروع قائد الجيش العماد جوزف عون الذي حاول البعض أن يحمّله مسؤولية هذه التعديلات ومسؤولية المسار السياسي الذي سلكته. “الجيش عمل الدراسة وقدمها للرئيس عون والرئيس عون مشي فيها”. دور الجيش تقني بحت فقط. هذه هي المسألة باختصار بحسب ما تقول المعلومات. فالمرسوم الأول تمّ إعداده على أساس دراسات أولية غير علمية بعكس الدراسة التي تولّتها مصلحة الهيدروغرافيا في الجيش بمعونة خبرات إيطالية وبريطانية.
تقول المعلومات إنه نتيجة الإتصالات التي أجراها الوسيط لم تكن هناك مشكلة لدى “حزب الله” لأنّ له مصلحة في اعتماد هذه التعديلات، ولا يمكن أن يكون ضدّها ولذلك كان متساهلاً في مسألة أن ينتقل الملفّ من الرئيس برّي ليكون بعهدة رئيس الجمهورية. ضمن هذا المسار أتى إعلان الرئيس برّي لاتفاق الإطار للعودة إلى المفاوضات. ولكن بعدما لم يقرّ مرسوم التعديلات في مجلس الوزراء، وبعدما لم تتشكّل حكومة جديدة لتبحث فيه، وبعدما لم يتم إرسال رسالة الرئيس إلى الأمين العام للأمم المتحدة، حمل الوفد اللبناني هذه التعديلات ليطرحها مباشرة على طاولة المفاوضات التي توقّفت نتيجة ذلك بعد جلستين، وبقيت معلقة بعد إعلان واشنطن عن إلغاء الجولة التي كان مقرراً عقدها في 2 كانون الأول الماضي.
فتّش عن جبران
لماذا استعيدت مسألة التعديلات على المرسوم؟ تقول المعلومات إن السبب الرئيسي هو أن العدو الإسرائيلي لزّم شركة يونانية لتبدأ عمليات التنقيب في حقل كاريش في بداية شهر حزيران المقبل. وكان المطلوب من إحياء مرسوم التعديل قطع الطريق عليها. دارت الدائرة وعاد المرسوم إلى القصر الجمهوري بعد اللف والدوران في مسألة من يوقّع عليه أولاً؟ ومن يرسله؟ وهل المطلوب إقراره في جلسة لمجلس الوزراء حتى تكتمل مواصفاته الشرعية ولا يتم التشكيك به ويتحمل الجميع مسؤولية النتائج التي قد تترتب عليه، لأن لها انعكاسات مباشرة على الصراع مع العدو الإسرائيلي؟ من هنا كان امتناع رئيس الجمهورية عن توقيع المرسوم الذي اعتبره مشروعاً سياسياً خاصاً به مفاجئاً.
لماذا أخذ الرئيس هذا الخيار قبل يومين من زيارة مساعد وزير الخارجية الأميركية دايفد هيل؟ تقول المعلومات أيضاً: فتش عن جبران. هل كان من الممكن المساومة في مسألة التوازي بين رفض توقيع المرسوم وبين رفع العقوبات عن باسيل؟ تقول المعلومات لأن عون بات شبه مقتنع أنه لن يكون بإمكان باسيل الوصول إلى قصر بعبدا وإنّ أقصى ما يمكن أن يفعله عون له اليوم لكي يؤمن سبيل وراثته سياسياً أن يبقي له دوراً في السياسة. في الأساس كانت رغبة باسيل جامحة في الوصول إلى بعبدا. ربما من خلال ذلك يمكن فهم كيف أنه عمل على إبعاد قائد الحرس الجمهوري من جناح خاص في القصر، لكي يحوّله إلى جناج خاص به ولكي يجعله مكتباً ومكان إقامة له ولعائلته على أساس أنه معرّض للخطر، وأنّ عليه أن يلتقي الرئيس عون يومياً في القصر ولا يمكنه أن يتحمّل خطر الإنتقال من الرابية أو ميرنا الشالوحي أو اللقلوق.
كيف يمكن أن يكون رد فعل “حزب الله” على موقف الرئيس؟ تقول المعلومات إنّه لم يكن مرتاحاً وهو لن يعلن عن موقفه. وماذا سيحصل مع تعذر اتخاذ قرار بإقرار المرسوم في مجلس الوزراء ومع عدم توجيه الرئيس عون الرسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، ومع اقتراب موعد التنقيب الإسرائيلي في حقل كاريش؟ بحسب المعلومات هناك نتيجة واحدة: تخبز بالفراح.