“تيتي تيتي متل ما رحتي متل ما جيتي”، هكذا انتهت زيارات الدبلوماسيين العرب إلى بيروت، بخيبة وفشل في تحقيق أي خرق في جدار الأزمة السياسية. أمر دفع بالإدارة الأميركية لإرسال موفدها، في زيارة “تشكيل وترسيم”، إستطلاعية وتحذيرية، ليُبنى عليها تقرير سيحدّد أسس التعاون الأميركي مع لبنان واستراتيجيته خلال الفترة القادمة، رغم أن موقف الرئيس ميشال عون، قلب المعادلات وقد يكون غيّر في الإتجاهات، إذا ما صدقت النيّات.
كلام واحد قاله السفير دايفيد هيل أينما حلّ، وإن اختلفت اللهجة والنبرة وفقاً للمُضيف، قاصداً أن يكون كلامه مكتوباً معدّاً مسبقاً بحنكة ودقة، مضفياً عليه الجدّية المطلوبة بتعابير وجهه، مقابل ليونة لبنانية بدت واضحة، حتى قُبيل وصوله بساعات، ما أوحى بأن شيئاً ما يُطبخ في الكواليس. حتى أن الزيارة إلى عين التينة، التي لم يأخذ من وقتها ملف الترسيم حيّزاً كبيراً، زادت على الغموض غموضاً. فهل كان الضيف الأميركي يعرف بالمفاجأة المحضّرة؟
غير أن رصد جدول مواعيد الضيف الأميركي ومن شملت واستثنت، بما حملته من رسائل في الشكل والمضمون، جاء ليعزّز الإنطباع الذي تركته الزيارات الدبلوماسية العربية، لجهة وجود قرار عربي – دولي بحصار رئاسة الجمهورية وعزل بيئتها السياسية، والذي لاقته بعبدا، خلافاً للمرة السابقة “بأعصاب باردة” محتويةً الموقف، في رسالة ودّ للأميركيين، رغم أن الديبلوماسي الأميركي قرّر “بقّ البحصة” من مقر الرئاسة الأولى، مدلياً بدلوه، قد قابله فتح الأوراق المستورة في لعبة المرسوم – اللغز.
فوكيل وزير الخارجية، الذي وعد بالكلام غير المُباح، وفى بعهده، في بيان مكتوب صيغ بدقة وحنكة سياسية، دفعت بجنرال بعبدا إلى إخراج أرنب لم يكن في الحسبان في ملف ترسيم الحدود البحرية، رغم أن تغييب موضوع تشكيل الحكومة عن البيان الرئاسي كان لافتاً.
فماذا يمكن أن نستنتج من البيانين اللذين شكّلا علامةً فارقة؟ في حال أردنا تشريح البيان الأميركي، يُمكن أن نكتشف ما دار في المباحثات بين الجانبين، وأهمّ النقاط التي أُثيرت، والتي يمكن اختصارها بالتالي:
– في الملف الحكومي: دعوة هيل الواضحة إلى عدم الربط بين تشكيل الحكومة والمحادثات الدولية – الإيرانية، وهو ما أكدّ عليه سابقاً أمين عام “حزب الله” السيد حسن نصرالله، وكذلك المقرّبون من طهران، إذ يبدو أن الطرفين الأميركي والإيراني مصرّان على التعامل “على القطعة” في ما خصّ ملفات المنطقة المرتبطة بنفوذ طهران الإقليمي، وهذا يعني عملياً، استمرار نهج الإدارة السابقة.
أمّا النقطة الثانية اللافتة، فتلميحه إلى “أولئك الذين يواصلون وضع العقبات ويعرّضون أنفسهم للعقوبات”. فإذا كان يقصد فريق الرئيس عون، فمن يكون التالي بعد إدراج النائب جبران باسيل؟ هل هو الرئيس عون شخصياً؟ عند هذه النقطة، من الممكن أن نفهم سبب غياب أي ذكر للموضوع الحكومي في البيان الصادر عن الرئاسة.
وثالثاً، كان تأكيد على المؤكد، بأن لا مساعدات من أي كان من دون حكومة، باستثناء الدعم غير المشروط للجيش اللبناني وتعزيز قدراته.
– وفي موضوع “حزب الله”، بدا نافراً استقصاده إثارة هذا الأمر من بعبدا، حليفة الحزب، بعدما كان هذا الملف غائباً عن النقاش في المرّات السابقة. فقد اتهم هيل الحزب بالقيام “بنشاطات غير شرعية تمنع قيام دولة سالمة، بتمويل من إيران”. بطبيعة الحال، لا يخرج هذا الكلام عن سياق التقرير الذي وضعته وكالة المخابرات الأميركية، قبل ساعات من وصول هيل، وتحدّثت فيه عن خطر “حزب الله”، وتحضيره لاستهداف مصالح أميركية، موصيةً بضرورة فرض مزيد من الضغوط عليه. وهذا الأمر، يعني عملياً أن الإدارة الحالية ستستمرّ في سياسة سابقتها، وبالتالي، لا تغيير استراتيجي يُذكر. ولكن السؤال المطروح، كيف ستوائم واشنطن بين دعمها اللامحدود للجيش لضبط الأمن، وبين الضغوط على حارة حريك التي قد تؤدي إلى عدم استقرار الشارع؟
– ملف ترسيم الحدود، وهنا مفاجأة الزيارة الكبرى والقنبلة التي فجّرها رئيس الجمهورية في وجه الجميع، رداً على استعداد واشنطن تسهيل محادثات الحدود البحرية مع إسرائيل، ملوّحاً بجزرة “النفع على الإقتصاد اللبناني الذي يعاني أزمةً شديدة الوطأة”. لكن الردّ اللبناني الصاعق من الداخل قبل الخارج، جاء بعد دقائق، ليؤكد على حق لبنان باعتماد خبراء دوليين محايدين لترسيم الخطّ وفقاً للقانون الدولي، مقابل التزام إسرائيل عدم القيام بأية أعمال تنقيب في كاريش. وهو ما يعني عملياً فرض معادلة ٦٤٣٣ جديدة، ووقف العمل بالمرسوم مقابل وقف إسرائيل لعمليات التنقيب في كاريش، أي عدم التقيّد بمسألة التوقيت والتسرّع في تعديل المرسوم من دون الضمان الفعلي لحق لبنان وتحديد منطقته الإقتصادية الخالصة دولياً.
فهل هو أرنب بعبدا الذي يفسّر القطبة المخفية من وراء التريّث الرئاسي؟ أم أن هذين الأمرين منفصلين؟ إقتراح مشروط وتسليم دولي بالخبراء الدوليين، وبالتالي، تعليق البتّ بالمرسوم. فلصالح من جاءت هذه الخطوة وعلى حساب من؟ هل حصل لبنان على ضمانات ما؟ وماذا سيكون عليه موقف “حزب الله”؟ هل ينفخت الدفّ بين عون ونصرالله؟ الجواب لن يتأخر كثيراً قبل خروج البوق النفطي ليعلن نفيره العام.
تقول مراجعة تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي، أن ما يمكن أن تحصّله من تل أبيب اليوم في أي اتفاق، ستحصل بالتأكيد على أقلّ منه كلما تأخر الوقت، ومهما تغيّرت التوازنات.
ما رفضه العرب عام 1948 باتوا يقبلونه اليوم، فيما الإتفاقات مع تل أبيب تكاد تعطي 15٪ مما عرضته سابقاً. حتى القرار 1701 الذي جاء وليد حرب تموز 2006، لا ينفصل عن هذا السياق التاريخي, وعليه، فإن ما نرفضه اليوم “بتكبير حجرنا” سنهرول غداً ساعين لنصفه.
ومن يَعِش يرى… لا من منطق استسلام أو ضعف بل تسليماً بحتمية حركة التاريخ… فالجوع كلفته تطبيع، ولم ولن يكون من “دون ما ناكل بعض”… هي الحقيقة المرّة الأليمة… رغم اتهامات التخوين المعلّبة والجاهزة مسبقاً… فهل بدأنا تغيير المسار، يسأل الشاطر حسن؟