وضع الرئيس المكلّف سعد الحريري التكليف في جيبه، هذا التكليف الذي حذّر منه العهد ووقف ضده، وراح يعزِّز نقاط قوته، ولم يكتف بهذا القدر، بل ذهب إلى حد مواجهة العهد بسلاحه: الكباش على حافة الهاوية ورفض التنازل أولاً.
لا يجد الرئيس الحريري نفسه بدور المعارض ولا خارج السرايا الحكومية، فقرر ان يواجه العهد من موقع التكليف ولاحقاً من السرايا في حال تشكّلت الحكومة، حيث يرى انّ دوره في المعارضة ثانوي مقارنة مع دوره في السلطة، ونجح في تقديم بروفا على هذا المستوى منذ تكليفه الذي أتاح له التنقُّل بين عواصم العالم.
وقد استفاد الحريري من استقالة الرئيس حسان دياب أو بعدما دُفع إلى الاستقالة، من أجل الدخول على خط التكليف بشكل مفاجئ والربط مع مرحلة نهاية العهد الحالي. وبالتالي، أراد أن يكون في موقع السلطة لمواكبة ثلاثة استحقاقات انتخابية بمعزل عن حصولها أم عدمه: الانتخابات البلدية والانتخابات النيابية والانتخابات الرئاسية. وعلى رغم أهمية صيدا وبيروت وطرابلس بلديّاً، إلا ان التركيز الأساسي يبقى على النيابية التي ستفرز أكثرية جديدة وتعيد تشكيل الحكومة، ولكن الأهم يبقى في الاستحقاق الرئاسي من زاويتين: ان يكون شريكاً من الموقع السلطوي في صياغة وهندسة العهد الجديد، وان يكون شريكاً من الموقع نفسه في حال دخلت البلاد في فراغ طويل على غرار الفراغ بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، فلا يريد تجيير هذا الموقع لغيره كما حصل مع الرئيس تمام سلام، إنما يريد ان يكون في موقع السلطة والقرار.
ويرتكز الحريري في مواجهته مع العهد على نقاط ضعف الأخير مقابل نقاط قوته الشخصية. أما نقط ضعف العهد، بالنسبة للرئيس المكلف، فتكمن في الآتي:
أولا، دخول العهد في الربع الأخير من ولايته، الأمر الذي يجعل التركيز على الولاية اللاحقة، ما يعني سقوط الرهان السياسي والشعبي على العهد الحالي، خصوصا انه يتخبّط في أزمات داخلية وخارجية، مالية انهيارية في الداخل وعقوبات في الخارج.
ثانيا، الانهيار المالي الذي لا يتحمله العهد منفردا على رغم انه كان بمقدوره عدم الوصول إليه لو مارس بشكل مختلف لدى استلامه السلطة، لا بل ممارسته سرّعت في هذا الانهيار، إلا ان الأساس في كل هذا المشهد يكمن في الانطباع الشعبي العام الذي يحمِّله المسؤولية الأكبر كون الانهيار حصل إبان ولايته وفي ظل رئاسة احتكرت القوة والصلاحيات.
ثالثا، افتقاد العهد لأي داعم أو حليف باستثناء «حزب الله» الذي لن يتخلى عنه طبعاً، ولكنه لن يبدّيه على غيره، إنما سيوازن علاقاته مع القوى الأخرى ومن ضمنها الرئيس المكلف لسببين: لاعتبار سني-شيعي، ولكون الحريري الأقدر على توفير الدعم الخارجي للحكومة التي يريدها الحزب حفاظاً على الستاتيكو القائم، ومواجهةً لسياسة التجويع التي يتهم أخصامه باتّباعها.
رابعا، الضعف الخارجي للعهد والذي أكثر ما تبدّى من خلال المقاطعة الغربية والعربية لرئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل الذي يتم التعامل معه على غرار التعامل مع «حزب الله»، فيما اللقاءات مع رئيس الجمهورية يطغى عليها الطابع الرسمي والبروتوكولي.
خامسا، يتكئ الحريري على عامل إضافي وهو ان ليس من مصلحة رئيس الجمهورية استمرار الفراغ، لأن عدم تشكيل حكومة يعني استمرار الانهيار، فيما من مصلحته التأليف لاستعادة الاستقرار قبل نهاية العهد.
وفي موازاة نقاط ضعف العهد، يرى الرئيس المكلّف في ربط النزاع مع عون وباسيل مصلحة سياسية له وتكمن في الآتي:
أولا، شدّ العصب داخل بيئته التي اعتادت على صورة مغايرة له أقرب إلى صورة رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط اليوم في ظل سعيه إلى تسوية بأي ثمن، فلم تكن تتوقّع هذه البيئة من الحريري ان يرفض التنازل او المساومة او التسوية تحت عنوان «أم الصبي»، أو «مصلحة البلد»، وغيرهما من الأدبيات المكررة عندما يقرر طرف معيّن التنازل، بل وَجدته في موقع قوة في مواجهة فريق سياسي يدّعي القوة كل الوقت، ويصف نفسه بالعهد القوي، وبالتالي هذا التموضع أعاد تلميع صورته داخل هذه البيئة.
ثانيا، يستفيد الحريري من التفهُّم الخارجي لموقفه وتحديدا من الرباعية الدولية المتمثلة بفرنسا وروسيا ومصر والإمارات، فيحظى بدعم هذه الدول وتفهمها لوجهة نظره الحكومية، حيث تحمِّل هذه الرباعية مسؤولية العرقلة لرئيس الجمهورية وفريقه السياسي، وطالما لا يشعر بأي ضغط دولي عليه للتأليف، بل على العكس ينصبّ كل الضغط على العهد، فإنه يجد نفسه في موقع قوة لا ضعف.
ثالثا، يستطيع توظيف موقفه المواجه للعهد والرافض التنازل له خليجياً وأميركياً، فيميِّز بين وجوده في رئاسة الحكومة كحق تمثيلي له ولطائفته، وبين رفض تشكيل أي حكومة إلا وفق الشروط الإصلاحية الموضوعة والمطلوبة.
رابعا، يرى انّ باعتذاره يفسح في المجال أمام أن يكلِّف رئيس الجمهورية غيره، وان اعتذاره يشكل مطلبا للعهد الذي لم يكن يريده أصلا، وبالتالي يكون كمن يقدِّم له هدية ثمينة لن يكون في موقع او معرض تقديمها له على طبق من فضة.
خامسا، نجح بتكوين انطباع ان تأليف الحكومة، في حال تألفت، سيكون بشروطه لا بشروط عون وباسيل.
وفي موازاة نظرة الرئيس المكلّف للأمور، فإن العهد لن يكون في وارد التنازل قبل ان يضمن إمساكه بالحكومة في المرحلة الفاصلة عن نهاية الولاية، وفي المرحلة التي ستليها ليكون بدوره في موقع السلطة والقرار في حقبة الفراغ الرئاسي، وبالتالي يفضِّل ألف مرة استمرار الوضعية الحالية بين رئيس حكومة تصريف أعمال ورئيس مكلف على تأليف حكومة يسلِّم أوراقه السلطوية فيها لغيره، وهو يعوِّل في هذه المرحلة على الثلاثية التالية:
يعوِّل أولاً على «حزب الله» الذي لا يسمح باستفراده لا حكوميا ولا رئاسيا، والتباين في وجهات النظر، متى وجد، لن يجعل الحزب في موقع من يُضعف حليفه.
يعوِّل ثانياً على إعادة فتح الخطوط مع المملكة العربية السعودية، وبيانات الاستنكار التي تصدرها وزارة الخارجية اللبنانية عند كل اعتداء حوثي على السيادة السعودية يدخل في هذا الإطار.
يعوِّل ثالثاً على إعادة ترميم الثقة مع واشنطن من أجل فك العقوبات على باسيل، لأنه من دون فكها لن يكون من مستقبل رئاسي أمامه، فيما لا أولوية لدى العهد غير الأولوية الرئاسية، وكل الضغط أو المزايدة السياسية التي مارسها من أجل التوقيع على تعديل مرسوم الحدود البحرية مع إسرائيل عاد وتراجع عنها معتمدا التريث وداعيا إلى تحكيم دولي، وكل ذلك مسايرة للموقف الأميركي في ملف حساس ويهمّ الأميركيين ويستطيع من خلاله ان يعيد بناء الثقة معهم.
وأي خلاصة لهذا المشهد تقول ان لا حكومة إلا في حال اعتذر الحريري او استقال عون، وان حكومة تجمعهما أمر شبه مستحيل إلا في حال طرأ ما ليس في الحسبان، فيما نجح الحريري بوضع عون أمام خيارين: إما الفراغ حتى نهاية العهد، وإما التأليف معه وليس مع باسيل، ولا يبدو ان الحريري على عجلة من أمره، بل يرى ان مستقبله السياسي أمامه، فيما العهد يُستنزَف، والرأي العام اللبناني يتقاطع مع عواصم القرار على تحميله مسؤولية الفراغ، فهل يرضخ عون ومن خلفه باسيل؟ وما الخطوات التي يمكن ان يلجأ إليها للخروج من هذا المأزق؟ وما مصير البلد والناس في ظل هذا النزاع؟