نبيل مروة
لا يزال وقوفنا، نحن تلاميذ الصفوف الابتدائية، مُصطفّين كالجنود كل يوم صباحاً في ملعب المدرسة نُغنّي النشيد الوطني اللبنانيّ، ذكرى تبعث على الضحك. فقد كان طقساً غريباً يجمع ما بين جدِّيّة مُفتعلة للهيئة التعليمية وبين براءة وفوضى طبيعيتين على وجوه التلامذة الصغار، إذ يرددون النشيد الوطني مع الإكثار في النشاز لحناً وإيقاعاً. إلّا أنّ جواً من المرح والخفة كان يحصل بالعادة عندما يقرر أحد التلامذة تغيير كلمات النشيد الوطني، كردِّ فعل على جوِّ الانضباط الصارم والمفتعل. وقد اشتهر وقتذاك عن أحد التلاميذ إنشاده التالي: “كُلُنا للمِحْشي كل العالم بِكِرْشي… طم طا طم…”.
حدث هذا قُبيل بدء الحرب الأهلية اللبنانية بسنتين. حيث جرت العادة أن اجتمع مع أولاد صفي في ملعب المدرسة لنتبارى في تغيير كلمات نشيدنا الوطني. هكذا تعرفت إلى نشيد بلادي وحفظته مشوشاً، لا أشعر معه بالهيبة والوقار بل بالمرح والخِفّة. وحْدهُ نشيد الشجرة نجا من سخريتنا البريئة، وأخذ مكانة خاصة في الفرقة الكشفية التي انتميت إليها في تلك المدرسة الابتدائية.
مرَّ وقت طويل جداً، تقلّبت مشاعري وتبدّلت علاقتي بالنشيد الوطني الذي لم يكن قط نشيداً جامعاً لكل مواطينه اللبنانيين، يُشعرهم بالفخر والانتماء، إلى أن انطلقت انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وصدحت أصوات اللبنانيين واللبنانيات بهذا النشيد وترددت أصداؤه في معظم الساحات، كما في نفسي، لأكتشف وللمرة الأولى أن ثمة على الأقل نشيداً واحداً يُجْمِعُ عليه اللبنانيون فيُنشدونه بقلب واحد، على رغم أوصافه المبالغ فيها لتاريخ وطنهم والتي تبرز في كل مقطع من مقاطعه الكلامية.
بيْن هذيْن التاريخين، أي من بداية سبعينات القرن الماضي مروراً بالحرب الأهلية اللبنانية (1975) التي توقفت من دون ان تُختم نهايتها مع اتفاق الطائف عام 1990، وانتهاء الى هذا اليوم، قُرعت الطبول لأناشيد كثيرة مُبشِّرة بالحروب الدموية بين الطوائف والأحزاب، مثلما صدحت أصوات الأغاني الحماسية معلنة تقديس السلاح في الحرب والموت في سبيل القائد والقضية.
الأحزاب اللبنانية كافة، الطائفية منها والعلمانية يساراً ويميناً ومعها الفصائل الفلسطينية والأحزاب القومية العربية والإسلامية، كلها بالغت في استعمال النشيد والأغنية الحماسية، إلى حدود الابتذال والفظاظة واستخدموه سلاحاً كلامياً عُنْفياً مترافقاً مع أسلحة القتل والدمار، بهدف تحفيز غرائز العنف والقتل لدى الجماهير.
لعِبَت الأناشيد والأغاني الحماسية، وبخاصة ما نشأ منها على طابع أيديولوجي وتوجهٍ سياسي مُلتزم، دوراً تعبوياً كبيراً مُوَجَّهاً، لا سيما الى الاجيال الشابة. الإيقاع في النشيد يضخ دفقة ادرينالين في الدم، امّا اللحن فوظيفته التلاعب بالمُخيلة والعواطف، لإزاحة معنى الكلام الأصلي فيه وحقْنِه بما يُناسب من ميتافور ورموز تتسلل إلى الوعي، بهدف تركيز الإيمان المُطلق بمُثُلِ ايديولوجية مُحددة، لتصير مع الوقت إيماناً مُقدساً لا نقاش فيه، ومعه يسْهُلُ بذل الدم والشهادة في سبيله. هكذا كُنّا جميعاً، شُبّاناً وشابات، اثناء الحرب الأهلية اللبنانية نردد أناشيد الحرب “الثورية” مؤمنين بأننا إذْ نغني مع “المُغنّي” لربيع آتٍ لا محالة…فنحن نساهم حتماً في حالة وعيٍّ ويقظةٍ “ثوريَّتيْنِ”.
تاريخ النشيد
لا يُشْهَدُ لتاريخ النشيدِ الدعوةُ للعنف والقتل. فالنشيد من فِعْل أنْشَدَ ايْ غنَّى مديحاً او رنَّم صلاةً. شعوب الحضارات القديمة (اليونانية والفرعونية) انشدو للآلهة في اثناء شعائرهم من اجل وِفرة المطر والصيد والحصاد، ولإبعاد الكوارث الطبيعية عنهم. اول الاناشيد كانت سِفْر “نشيد الأنشاد” للملك سليمان في إنجيل العهد القديم. أمّا اول انشاد إسلامي فكان يوم هاجر النبي محمد مع أصحابه من مكّة الى المدينة، فاستقبله الجموع بنشيد “طلع البدر علينا”، واذْ كانت الدعوة في الدين الجديد سِلْميّة ولم يكن للسيف فيها أيّ دور بعد.
استُعمل النشيد في تراتيل الكنيسة المسيحية وتطور شكلاً ومضموناً في القرون الوسطى عبر إدخال الغناء الغريغوري عليه، ما أدّى الى نشوء الكورس الإنشادي. بيْدَ أن خروج النشيد من الكنيسة الى المجتمع باستعماله في الاحتفالات الشعبية الكبرى أو بهدف تقريظ الملوك وتطويبهم على العرش، جعله فناً موسيقياً تأليفياً مستقلاً بذاته، لا يعتمد كلامه فقط على النص الديني بل وأيضاً على نصوص الشعر والنثر، كما ويشترك في أدائه الكورال الإنشادي، إضافة إلى الآلات الموسيقية وخصوصاً آلات النفخ النحاسية. أخذ النشيد أشكالاً مختلفة مع دخوله عالم التأليف الموسيقي الكلاسيكي فاستعمل في القداس والقصائد المغناة للاوبرا، كما في الاعمال السيمفونية، وكان اكثرها شهرة “نشيد الفرح” في الحركة الرابعة من السيمفونية التاسعة للمؤلف الالماني بيتهوڤن، مستعيناً بنصّ للشاعر الألماني شيلر: “الفرح… الفرح / دعونا ننشد لحناً اكثر بهجة…”.
مع نشوء الدول الوطنية والجمهوريات المتعددة القومية في أوروبا أصبح النشيد رمزاً معنوياً يشعر معه مواطنو هذه الدول بالانتماء والفخر. نصوص أشعاره، وتحديداً بعد حربيْن عالميَّتَين، مجَّدت قيم الإنسانية ومعاني التضامن والمساواة بين البشر وحفّزت على نبذ الحرب والسعي الى السلام. كما ابتعد اللحن فيه من صلابة إيقاع المارش العسكري وصرامة صوته النحاسيّ الذي لازمه لفترة، مع استمراره في استعمال السلم الموسيقي الكبير (ماجور) للدلالة على الفرح والتفاؤل.
بدايات النشيد العربي
ظهرت الأناشيد العربية الى الوجود مع نشوء دُوَلها في الربع الأول من القرن الماضي. وقد انطلقت بمعظمها من مصر ولبنان عبر الفرق الموسيقية العسكرية الناشئة محلياً بمساعدة من الانتداب الفرنسي والبريطاني.
ففي بداية القرن العشرين أنشأ ملك مصر محمد علي فِرقاً موسيقية عسكرية محلية لجيشه مستعيناً بخبرات الجيوش الأوروبية. وفي لبنان، تأسس فن كتابة الأناشيد على يد الأخوين فليفل، وتحديداً بعدما عاد محمد فليفل من اسطنبول مُنهياً فيها دراسته الموسيقية بُعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى.
ومع زوال الإمبراطورية العثمانية عاشت هذه الدول تحت حكم الاستعمار المُنْتدَب عليها لسنوات طوال، خلالها أتت الأناشيد تحررية الطابع تدعو إلى وحدة الشعب والاستقلال والشعور بالفخر والحب للبلاد. فاشتهر في مصر نشيد “بلادي بلادي لكِ حبي وفؤادي”، الذي لحنه الشيخ سيد درويش. ساهم هذا النشيد في تزخيم مشاعرا لثورة المصرية التي قادها سعد زغلول ضد المستعمر البريطاني.
أسس محمد فليفل لموسيقى “المارشات” العسكرية في الدرك اللبناني. وعلى يدِ الأخوين فليفل انطلق فن تأليف النشيد، وقد أتى عسكري الطابع من الناحية الموسيقية، أما كلامه فتنوّع تارة بين انشاء تربوي وآخر تحفيزي على الوحدة القومية والتحرر من الاستعمار. وقد يكون عقاباً لحماسة الأخوين فليفل لهذا الشعور القومي مع الدعوة للوحدة العربية، إنْ رُفض نشيدهما المُقترح الى اللجنة الرسمية لاختيار النشيد الوطني اللبناني، وإعطاء الأفضلية لنشيد وديع صبرا من شعر رشيد نخلة.
وهكذا أصبح للبنان نشيده الوطني بكلام يحوي مبالغات سردية لتاريخ فانتازي، وبإيقاع عسكري ولحنٍ تحوم حوله شكوك، غير مؤكدة بعد، بأنه لحن مسروق من أحد الأناشيد القديمة في المغرب العربي.
أمّا نشيد الأخوين فليفل من شعر خليل مردم بك “حماة الديار عليكم سلام” الذي لم يقبله الشيخ بشارة الخوري، فاعتمد كنشيد وطني للجمهورية السورية الناشئة، الذي أتى أيضاً بصيغة المارش العسكري لكلام في الوحدة القومية العربية.
عسْكَرة الأناشيد
خسارة فلسطين دفعت فن كتابة النشيد والأغنية الحماسية إلى مراحل أكثر توتراً وتعبيراً عن مأساة الشعب الفلسطيني الذي طُرد من أرضه قسراً. كان يمكن لهذا التوتر في التعبير الفني أن يأخذ فن النشيد والاغنية إلى أماكن أبعد تطوراً في الشكل والمضمون، كما حصل مع الأخوين رحباني عندما ألّفا عملهما الغنائي للكورال والصوت المنفرد مع الأوركسترا “مغناة راجعون”، حيث الكثير من عناصر النشيد كامنة في تعبير فنيّ اوركسترالي متطور قلّ نظيره في البلدان العربية الناشئة.
ولكن مرحلة خمسينات القرن الماضي وستيناته، التي عصفت بالعالم العربي من أحداث وانقلابات عسكريّة قوميّة وحروب كانت أهمّها حرب عام 1956 التي شهدت الهجوم الثلاثي على مصر، وهزيمة 1967 وقبلها حرب 1958 في لبنان التي كانت أهلية الطابع، دفعت بالنشيد الى أحضان “المارش” العسكري الصارم، مشدوداً على كلام حماسي عالي النبرة والقصد منه ليس رفع معنويات الشعوب العربية المهزومة وحسب، لا بل وايهامهم أيضاً بأن النصر حليفها وبناء الأمة العربية لا يأتي إلا عبر الثورة والموت في الحروب لتحرير الأرض وبناء الاشتراكية.
أناشيد الأوهام العربية
فنانو تلك المرحلة البارزون (شعراء، ملحنون ومغنون) انخرطوا بمعظمهم في هذه الموجة مُلبّين نداء السلطة العسكرية. فراجت اغانيهم عبر الراديو والتلفزيون مخاطبة الجماهير في دعوة إلى القتال والكفاح والتحرير والتوحد في أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة. أم كلثوم مثلاً أنشدت “والله زمان يا سلاحي/ اشتقت لك في كفاحي” وفي اغنية ثانية تُنشد من ألحان محمد عبد الوهاب وكلمات نزار قباني “أصبح عندي الآن بندقية الى فلسطين خذوني معكم…/ ومن يوم انْ حملْتُ بندقيتي صارت فلسطين على أمتار…”.
عبد الحليم كان غنّى “أنشودة فدائي” من ألحان بليغ حمدي، وفيها اهدى العروبة دمه صارخاً ولكن بنبرة موسيقية حزينة وقاتمة: “فدائي… اهدي العروبة دمائي/ أموت أعيش ما يهمِّنيش/ وكفاية شوف علم العروبة باقي…”.
وكان حظُّ بعض هذه الأناشيد أن تمَّ استخدامه كنشيد وطني للدولة (مصر، سوريا، العراق) لفترة من الزمن ليُسْتَبدَل في فترة أخرى على اثر الانقلابات العسكرية في الحكم أو تبدل في الظروف السياسية والأحلاف الإقليمية.
الكثير والكثير من الأناشيد والاغاني الحماسية والاشعار، لا مجال لاستعراضها في هذه العجالة، أزهقت في سبيل إيهام الشعوب العربية بأن النصر على العدو آت لا محالة وأن ما اُخذ بالقوة لا يُستعاد إلا بالقوة، وأن لا صوت يعلو على صوت المعركة، ومعها أيضاً أزهقت أرواح كثيرة ودماء غزيرة وضاعت فُرص حقيقية بالنمو والازدهار والتقدم.
تواري النشيد في لبنان
ظروف لبنان وتركيبته السياسية والاجتماعية وضعت النشيد في خلفية المشهد خصوصاً بعد تمرين صغير على الحرب الأهلية عام 1958. وعلى اثر هذا، تراجع النشيد عموماً، لتحل محله الأغاني الحماسية الوطنية، بمواضيع تارة تتحدث عن “العيش المشترك بين الطوائف” أو تمجيداً لرموز أسطورية أو ريفية كالجبال العالية التي لا تُطال وشجر الأرز والعنفوان والكرامة وشخصية المختار الموجود دوماً لاصلاح ذات البَيْنِ إضافة الى موضوع التضامن مع البيت الصامد في الجنوب وقضية جرحه النازف التي لا تنتهي.
الأخوان فليفل وبعد نشيدهما الشهير “موطني” والذي تنقّل كنشيد رسمي لبعض الدول العربية المجاورة، وضعا أناشيد ذات موضوع تربوي كنشيد “الشجرة” ونشيد “الشباب” وأناشيد ذات طابع حربي او حزبيّ، كنشيد “المُصفَّحات” نشيد “ميليشيا المرابطون” ونشيد “حزب الكتائب”، وبعدها انكفآ بعيداً مُتفرِّغين لتأليف “المارشات” العسكرية الخاصة بالجيش. أمّا الرحابنة فكانوا قد قطعوا شوطاً مهماً في التأليف لمسرحهم الغنائي، من دون أن يطوروا في تجربة مُغناة “راجعون”، مُفضِّلين أن يراعوا وضعية الصيغة اللبنانية “الفريدة” وتوازنات السلطة فيها مع الإبقاء على جرعة خفيفة من النقد لأدائها، وأخرى عالية من الأساطير المؤسِسَة لتاريخ لبنان.
اليسار اللبناني والنشيد
مع انطلاقة شرارة الحرب الاهلية اللبنانية 1975، وانقسام اللبنانيين مع جيشهم إلى طرفين متحاربين، لم يكن للأحزاب التي شكّلت ما يُسمى “الحركة الوطنية اللبنانية”، أي مخزون من الأناشيد، سوى القليل منها. “الحزب القومي السوري الاجتماعي” سُجِّل في رصيده نشيد لحَّنهُ له الراحل زكي ناصيف من كلمات أنطون سعادة وفيه: “سوريا لك السلام/ سوريا انتِ الهُدى… نحن الفِدى”. الراحل وليد غلمية لحّن لـ”حزب البعث” نشيد “أرض الرافدين” الذي اعتُمد نشيداً وطنياً للعراق منذ عام 1981، من كلمات شفيق الكمالي وفيه: “يا سرايا البعث يا أسْد العرين/ ازحفي كالهول للنصر المُبين…”. كما لحّن نشيداً “ثورياً” احترابيّ اللحن والكلام، قيل إن كاتبه هو تشي غيفارا نفسه، وفيه :
“ما همَّ ان نموت في دويِّ صرخات الحرب/ ما همَّ إذا وجدنا بعدنا من يحمل السلاح/ يواصل الكفاح/ ويحمل الثورة للنصر/ فنحن لا نموت”.
الأحزاب الناصرية كان مخزونها من هذه الأناشيد متوفراً وبكثرة من الخزانة المصرية، إضافة الى أناشيد الثورة الفلسطينية. وكان لإذاعة ميليشيات المرابطون، الكائنة على كورنيش المزرعة في القسم الغربي من بيروت، دور كبير في بث هذه الأغاني والأناشيد التي استعملت أيضاً في العراضات العسكرية الموسمية لقواتها العسكرية في محاولة فرض أمنها الذاتي على المنطقة. بعد حين أُحرقت هذه الإذاعة على اثر اشتباكات دامية بين أخوة ورفاق في الصف الواحد.
في أناشيد “العاصفة” للثورة الفلسطينية تركّز بوضوح عسْكَرة النشيد مع ظهور ميلٍ واضح لاستعمال ألحان وإيقاعات من الفولكلور الفلسطيني، جاء على كثير من الفجاجة باستعمال أصوات الرجال الغليظة فقط من دون أصوات النساء كما أتى على قبح ايقاعي تضج به آلة الطبلة والدربكة. امّا الكلام فيه فصريح في الدعوة إلى حمل السلاح والتحفيز على “الاستشهاد” والموت الانتحاري سبيلاً وحيداً لاسترجاع الأرض السليبة.
“الحزب الشيوعي اللبناني” الممثل الأبرز لليسار والمتحالف مع الثورة الفلسطينية، كان يملك في البداية نشيده الأممي السوفياتيّ بنسخته العربية. لحْنُهُ غنائي النبرة وكلامه تبشيريّ بخلاص البشرية وبحتمية الجنّة المْوعودة : “بجموعٍ قوية هُبوا لاح الظفر/ غَدُ الاُممية يُوَحِّدُ البشر”. بعد حين تطوّع زياد الرحباني بتلحين النشيد الرسمي للحزب ذاته، أتى نصه الكلامي في الاتجاه التبشيري والشمولي ذاته، مع تأكيد أن الثورة هي نار وبارود وموت ضروري للجنود من أجل أن يحيا القائد والقضية، وفيه: “نحنا أعطينا القائد اسم الخلود/ حتى يبقى القائد ماتوا الجنود/ ويا عهد الأممية تحية تحية”.
لم يطُل الوقت في بدايات الحرب ليتكوْكب موسيقيون وملحنون حول هذا اليسار وتحديداً “الحزب الشيوعي اللبناني”، أخذوا على عاتقهم كتابة الشعر والأناشيد كجزء من مشروع التغيير “الثوري” ذات الطابع الاحترابي. ومن هذه الكوكبة برزت أسماء لموسيقيين أربعة: غازي مكداشي، خالد الهبر، مارسيل خليفة، احمد قعبور، الذين ابتعدوا من النشيد كشكْلٍ موسيقيّ لإثارة الحماسة والهيجان، واستعانوا بشكل الأغنية الرومانسية القصيرة في طابعيها اللبناني والأوروبي. واسمتدّوا كلمات أغانيهم من أشعار حديثة يغلب عليها الطابع الترميزي لكل عناصر “التثوير” والتحفيز على القتال وبذل الدم في سبيل القضية. ومن أجل أن يتميزوا عن بقيّة الأغاني، أعطوا لأغنيتهم تصنيفاً جديداً سمّوهُ “الأغنية السياسية الملتزمة”. انتشر هذا النوع من الأغاني الحماسية كالنار في الهشيم، وأدى وظيفته الأيديولوجية على أحسن الوجوه. فانخرط الكثير من شبيبة لبنان في عمر الورود في اليسار اللبناني واندفعوا مُتحمسين الى جبهات القتال ليعودوا منها قتلى أو جرحى.
وقد غنّى لهم خالد الهبر مع “غيتاره” أغنية الصمود في الشياح: “في الشياح مدينة البطولة/ في الشياح مصنع الرجولة…/ نموت ونقاتل في الشياح…” وفي اغنية أخرى لمقاتلي الشياح أنشد: “سنزرع في الشياح مليون اقحوانة/ سنحمل البنادق، نغني للبنادق ونكتب بالرصاص أسماء الشهداء”. كما غنّى للسنديانة الحمراء كرمز ميتافوري ابتكره الحزب للدلالة على كثرة “شهدائه الجنود” في الحرب التي بدأت تتضح عبثيَّتها ومنطلقاتها الخاطئة وتقول الأغنية: “إلِك عُمري كتبتو/ بالنار والاغاني/ يا سنديانة حمرا/ يا احلى سنديانة”. فهل كان المقصود أن كل سنديانة موت هي جميلة ولكن هذه السنديانة بالتحديد هي الأجمل؟”.
لا يتَخَلَّف مارسيل خليفة عن مسيرة تمجيد الموت و”الاستشهاد”، لا بل يتبوأها. فها هو يُنْشِدُ بحزن النُسّاك واصفاً كيف تكون أجمل الأمهات: “أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها وعاد مُستشهداً / فبَكَت دمعتين ووردة / ولم تنزوِ في ثياب الحداد”…ألم يكن الأجمل إنسانياً، لهذه الأم الثكلى والمفجوعة بمقتل ولدها في الحرب، بأن يعود إليها بعد طول غياب ليأكل من خبزها ويشرب من قهوتها ويشعر بلمستها؟
خليفة ألْهَمَ المقاتلين من كل الأطراف على جبهات القتال بأغانيه الكثيرة، كما أحمد قعبور الذي ألهب حماستهم في القتال والتنافس في الاستشهاد بأغنيته الشهيرة: “أناديكم وأشدُّ على اياديكم وابوس الأرض تحت نعالكم”. وفي أغنية ثانية أنشد عن أطفال الضفّة في فلسطين : “في الضفة لي أطفال سبعة/ أصغرهم يرضع تاريخه/ اوسطهم اسمه غيفارا/ أكبرهم ثائرٌ في الضَفّة”… وعلى افتراض مني أنّ الاخوين الأكبر والاوسط قد ماتا، يبقى السؤال ماذا حلَّ بالاخ الأصغر الذي كان في زمان مضى يرضع التاريخ؟ وأي تاريخ تحديداً؟ من المؤكد أنه أصبح الآن في منتصف عمره، فهل ما زال على قيد الحياة؟ هل أصبح اسلامياً أصولياً أم تُراهُ هاجر إلى أميركا أو تمكن منه اليأس، وتُراهُ الآن يُخطط للهرب بحراً إلى أوروبا؟
في المقابل لم يبذل اليمين اللبناني خلال الحرب الأهلية اللبنانية والمُتمثّل بأحزاب الجبهة اللبنانية وبعدها القوات اللبنانية على اثر معارك توحيد البندقية، جهداً كبيراً في تقديم أطروحات جديدة في النشيد والاغاني الحماسية سوى القليل او المُستعاد من أغاني البطولة والعنفوان في المسرح الغنائي الرحباني، وبعض الأناشيد الحزبية التي لحّنها الراحل الياس الرحباني مثل “على الصخر منحفر كتائب”. وأناشيد أخرى للقوات اللبنانية مجهولة المصدر مثل نشيد القوات البحرية وآخر يحاكي قدَر الموت في سبيل الحرية بلغة إيمانية مسيحية ولكن بألحان ريفية على إيقاع الديسكو الراقص، وفيه: “حمرا ومكتوبي بالنار/ الحرية مش خبز وخمر/ هَبّة ريح وليلة عمر/ ودرب تُوَدي صوب الغار”.
ولكن ثمة مجموعة من الأغاني والأهازيج لألحان فولكلورية في الأصل، رُكِب عليها كلام حربي أو حتى مبتذل، اخترعها المقاتلون من الطرفين، فتقاذفوا بها صوْتياً مترافقة مع الشتائم وزخّات الرصاص والقذائف من وراء متاريسهم ودُشمهم المُحصَّنة على خطوط التماس.
توقفت الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990، فتوقف الرصاص والموت والتغنّي بهما، لكن الحرب لم تنتهِ. أسباب الحرب الرئيسة مع كل ما راكمت من دمار ومآس (من قتلى وجرحى ومعاقين ومفقودين) ظلّت كامنة في اوصال المجتمع اللبناني وطبقته السياسية، التي اُعيد تكوينها من أمراء هذه الحروب العبثية مُطعَّمة بشريحة لبيرالية من الخارج تريد الاستثمار في موضوع إعادة الاعمار.
طُوِيَت صفحة الحرب على زغل، ومن دون أن يقدم أحد مراجعة عميقة لما حصل او حتى اعتذاراً عما ارتكبه في الحرب من فظاعات وجرائم حرب. إلّا في ما ندر من بعض المقاتلين الذين كان لهم دور محوري أو ثانوي في هذه الحرب وبعضهم أسس لاحقاً جمعية لنشر ثقافة السلام. أبرز وجوه هؤلاء المقاتلين كان السيد أسعد شفتري الذي كان له دور أمني بارز في “القوات اللبنانية”. قدم الشفتري اعترافات مُوَثّقة بدوره البشع اثناء الحرب الاهلية وذيّله الاعتذار تلو الاعتذار من ضحاياه. هو انطلق من كونه ينتمي إلى الفريق الخاسر في الحرب ولكن الأهم أنه، وكما يقول، عانى طويلاً من تكبيتٍ للضمير وعذابات نفسه الضائعة بعد انتهاء الحرب. الشفتري هو الوحيد الذي قدّم الاعتذار صراحة وصدقاً. كُثر من معارفه وحتى اهله لاموه وعاتبوه على هذا الاعتذار. هو أصرّ عليه فاعتبروه مريضاً عقلياً.
بعض الأحزاب اليسارية ومنها “الحزب الشيوعي اللبناني” والذي هُمّش دوره بعد توقف القتال واستُبعد عن تركيبة السلطة في المرحلة الجديدة، أجرى محاولة نقدية لمشاركته في الحرب لم تُستكمل بل أُجهضت في بداياتها وعلى اثرها انقسم الى اجنحة وتشظى. بعض الشخصيات السياسية مثل وليد جنبلاط وسمير جعجع قدّما اعتذاراً شكلياً خجولاً غير كاف، مقارنة بما نُسب لهما من ارتكابات فظيعة، فأتى الاعتذار من باب الدعاية السياسية لا أكثر ولا أقل.
الذين ارتكبوا هذا الأناشيد الاحترابية والأغاني الحماسية أيضاً لم يعتذروا، وجُلَّ ما فعلوه هو أن تابعوا حياتهم المعتادة مع تغيير طفيف أو جذري في أسلوبهم الفني.
بيد أن أغانينهم السقيمة كانت تعود الى مسامعنا عبر الإذاعات والتلفزيونات وحتى في فضاء التواصل الاجتماعي، مترافقة مع كل حدث جلل كان البلد يمر به، ليعودوا هم أنفسهم مُنتشين بالأغاني والأناشيد ذاتها، يفتشون عبثاً عن صورتهم السابقة في مرآة الحرب المقبلة.
أما هذا التراث “الفني” لأناشيد الموت والدم المبذول في سبيل القضايا المقدسة، فصحيح أنه تراجع وقد لا يتذكره إلا الذين عاصروه، ولكنه، برأيي، ما زال ينبض في ذاكرة الوجدان الجمعي التي لم يُعْمَل أي جهد لتنقيتها وشفائها من جروحها البليغة. هذا “التراث” غير المُشرّف موجود على أكثر منصات التواصل الاجتماعي تفاعلاً ،”اليوتيوب”، حيث باستطاعة الجمهور التأمل فيه صوتاً وصورة.
ها هي الأحزاب والحركات الإسلامية المتطرفة، شيعية كانت أم سُنية، في العراق وسوريا ولبنان وليبيا واليمن، ترِثُ هذا التراث الإنشادي وتزيد عليه تطويراً أكثر فجاجة وبشاعة في الصوت الذكوري واللحن والإيقاع الممزوج مع قرقعة السلاح ومناظر الدم وتقديس “الشهداء” في جنازاتهم حيث يُجْبَرُ الأهل على التبريك بموت أولادهم فداء للزعيم.
في هذا الشرق الحزين، تُقرع طبول الأناشيد وأجراس الأغاني الحماسية، في دعوة صريحة ومفتوحة إلى أجيال جديدة، للدخول في حروب جديدة مقبلة… هي دعوة لاستدامة الموت المجاني في أبشع صُوَرِه.