لأزمة المصارف أشكالٌ متعددة الجوانب. فهي لا تقتصر على مسألة الديون التي أقرضتها الى الدولة، إن من خلال الاكتتاب في سندات خزينة مقومة بالليرة او بالعملات (اليوروبوندز) التي وصلت حصتها فيها الى حوالي 9 مليارات دولار من أصل 31 مليار دولار، بل تطال توازياً تلك التي منحتها المصارف إلى القطاع الخاص.
تعتبر التسليفات بأشكالها كافة حجر أساس في خانة الموجودات، واجراء تقويم جدي لنوعيتها ولجودتها وإعادة تصنيفها هي مهمةٌ واجبة التنفيذ مع عملية إعادة هيكلة المصارف، سيما وأن التقديرات تشير الى ارتفاع غير مسبوق لنسبة الديون المشكوك في تحصيلها من المحفظة الاجمالية لتسليفات المصارف الى القطاع الخاص. وهو أمر يستوجب تكوين مؤونات يختلف حجمها مع نوعية الدين وتصنيفه. فالقروض غير المنتجة ثلاثة هي: الديون دون العادية، الديون المشكوك في تحصيلها والديون الرديئة. والنوع الاخير يعني أنه لا توجد امكانية لتحصيل أي مبلغ من قيمة الدين ما يفرض بالتالي على المصرف تكوين مؤونة بكامل قيمة الدين واعتبار الفوائد والعمولات بمثابة فوائد وعمولات غير محققة.
صحيح أن المصارف لم تلجأ بعد إلى اعادة تقويم محفظتها من التسليفات بانتظار إنجاز إعادة الرسملة وفق التعميم 154، الا أنّ المحتم أن حجماً مهماً من الديون المشكوك في تحصيلها سيخفض تصنيفه ليصبح في حكم “الرديئة”. وبالتالي، فان المؤونات التي على المصارف حملها لمواجهة تلك الأعباء – والمقتطعة من أرباحها- ستكون كبيرة جداً، وتطرح في المقابل تساؤلات حول قدرتها على تكوين هذه المؤونات وعلى تطبيق المعيار الدولي لتقارير الإبلاغ المالي رقم 9 (IFRS9) لناحية تصنيف الديون. وقد يفسر هذا الأمر سبب لجوء المصارف إلى إعادة جدولة القروض أو حتى غضّ النظر عن تأّخر أصحابها في الدفع، من أجل عدم تصنيفها كقروض متعثرة، على رغم أنّها كذلك. علماً أن قانون تعليق المهل الذي أقرّ المجلس النيابي (ومدده حتى 30 حزيران 2021) يمنع المصارف من اتّخاذ أي إجراءات قانونيّة بحقّ أصحاب القروض المتعثّرة.
وتجدر الإشارة الى أن المصارف تكوّن مؤونات بالليرة اللبنانية مقابل الديون المشكوك في تحصيلها والديون الرديئة أيا تكن عملة هذه الديون. وهناك أكثر من 59 في المئة من المحفظة الاجمالية للتسليفات مقوّمة بالدولار، ما يعني أن المؤونات المكونة في مقابلها انخفضت بشكل كبير مع التراجع الدراماتيكي لسعر الصرف.
وكانت تسليفات المصارف الى القطاع الخاص سجلت تراجعاً ملحوظاً قيمته 13.6 مليار دولار أو ما نسبته 27.3 في المئة في نهاية العام 2020 لتصل الى 36.2 مليار دولار من 49.5 مليارا في 2019 و58.9 مليارا نهاية العام 2018، نتيجة الازمة الاقتصادية والاجتماعية والمالية والنقدية الخطيرة التي نمر بها. هذا التراجع، الذي قابله بطبيعة الحال تراجع في حجم الودائع المصرفية، ناجم بشكل أساسي عن عمليات إطفاء الديون بالشيكات المصرفية الصادرة من حسابات المودعين (معظمها لغرض شراء عقارات).
في البداية، استفادت المصارف من هذا التدبير الذي يؤدي دفترياً الى تقليص محفظتها التسليفية. لكن المشكلة بدأت تأخذ منعطفاً أكثر خطورة مع تنامي حجم الديون المشكوك في تحصيلها نتيجة تفشي جائحة كورونا التي تسببت بحالات افلاس وقفل مؤسسات أدت الى توقفها عن سداد مستحقاتها. ناهيك عن الافراد الذين بات عدد كبير منهم بلا عمل وغير قادر على سداد استحقاقاته لقروض التجزئة.
وقد استمر منحى هذه الديون في الارتفاع بعد انفجار مرفأ بيروت الذي عزز شلل الاقتصاد. وتظهر دراسة للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب اسيا (الاسكوا)، أن مبيعات القطاع الخاص النظامي تقلصت بنسبة 45 في المئة عام 2020 تقريبًا، مقارنةً بمعدّل مبيعات عام 2019، في موازاة تسريح 23 في المئة من الموظفين العاملين في قطاعات رئيسية فيه.
30 في المئة قروض متعثرة؟
في السياق نفسه، يشير تقرير صادر عن البنك الدولي في الاول من كانون الأول 2020 الى أنّ هناك تدهوراً حاداً في الأداء الائتماني لدى المصارف اللبنانية، بما يشكل انعكاساً ومقياساً للديون المشكوك في تحصيلها. وقدّر نسبتها بـ30 في المئة من القروض الاجمالية، منها 50 في المئة مرتبطة بالمقاولات والبناء. فإذا كان هذا الرقم صحيحاً، فسيمثل عندها عبئاً كبيراً على القطاع المصرفي.
خبير المخاطر المصرفية الدكتور محمد فحيلي يؤكد في تصريح لـ”لبنان الكبير” أن هذه النسبة أعلى بكثير، ويشرح أن هناك فرقاً بين مراقبة صحة وجودة محفظة التسليفات للقطاع الخاص وبين مراقبة نوعية محفظة تسليفات المصارف وتوظيفاتها. فـ”المصارف أقرضت الدولة اللبنانية بالعملة المحلية وبالعملات الاجنبية، وهي تسليفات كلنا يعلم جودتها. كما هناك توظيفات للمصارف لدى مصرف لبنان بالليرة وبالدولار، واخرى ممنوحة للقطاع الخاص”. وقسّم فحيلي جزء التسليفات الى القطاع الخاص الى شقين:
– الأول يتعلق بالمقترضين الذين يواصلون سداد استحقاقاتهم. ويشرح فحيلي هنا أن التسليفات بالدولار شكّلت ضربة كبيرة للمصارف، باعتبار أنه في هذه الحالة يفترض الأخذ في الاعتبار جودة مخاطر الائتمان ومخاطر أسعار الصرف من أجل تقويم جودة هذا النوع من التسليفات. مثلاً؛ حين أقرض المصرف العميل بالدولار كانت العملة الخضراء تساوي 1500 ليرة. وعلى رغم التدهور الكبير في سعر الصرف، بقي العميل يسدد دفعاته الدولارية بالليرة وفق سعر الصرف الرسمي أي على أساس 1500 ليرة. والمصرف ملزم بقبول هذا الدين بالليرة وبسعرها الرسمي بموجب التعميم الوسيط 568 لمصرف لبنان، ويسمح في الوقت ذاته لصاحب حسابات “الدولار” بسحب أمواله بحسب سعر صرف 3900 ليرة لكلّ دولار، فيما يتم التداول بالدولار في السوق السوداء باسعار تفوق الـ12 ألف ليرة. ما يعني أن قيمة المبالغ التي يقبضها المصرف باتت أقل بكثير مما كانت عيله سابقاً. وهذا الامر يجب أن يؤخذ في الاعتبار عند إجراء عملية تقويم لجودة محفظة التسليفات للقطاع الخاص.
– الثاني يرتبط بالتسليفات المتعثرة نهائياً والتي يعجز المصرف على اتخاذ أي اجراء حيالها للأسباب التالية: عدم قدرة المصرف على فرض فوائد جزائية نتيجة التخلف عن الدفع ربطاً بقوانين تعليق المهل، مما يجعل من مسألة اعتبار هذه التسليفات سيئة أمرا بعيداً عن التحقق. وبالتالي، فان تقويم محفظة التسليفات للقطاع الخاص يحتاج الى دراسة جيدة لا يمكن انجازها على صعيد القطاع المصرفي ككل، بل على كل مصرف على حدة أن يقوم بذلك وأن يبلغ السلطات الرقابية عن طبيعة المشكلة التي يواجهها وعن الـ troubled assets في محفظته. عندها فقط، يمكنه أن يعرف حجم رأس المال الذي يحتاح اليه في سبيل مواجهة المشكلة. وهذا ما أشارت اليه تحديداً المادة الاولى من التعميم 154 والتي نصت على أن مصرف لبنان طلب من المصارف دراسة شاملة وواضحة عن موجوداتها ومطلوباتها، بما يشكل رسالة من مصرف لبنان بجدية التعاطي مع إعادة تعافي القطاع المصرفي. في المعلومات أنّ مصرف لبنان يتابع التقدم في هذه الدراسة وطلب من كل مصرف أن يقدم مشروع تعاف خاصاً به، ليدرس على حدة وليتصرف على أساسه.
ولكن هل المصارف كانت كوّنت مؤونات كافية في وقت سابق؟ يجيب فحيلي “أن المؤونات التي تشترط السلطات الرقابية تكوينها تختلف عن تلك المطلوبة من المعيار الدولي لتقارير الإبلاغ المالي رقم 9 (IFRS9). والمصارف ملزمة في تكوين هذين النوعين من المؤونات. معظمها ممتثل للنوع الاول الذي تفرضه السلطات الرقابية. ولكن الامتثال بتوجيهات الـIFRS9 المتعلق بتناقص قيمة الاصول، فان قلة من المصارف ملتزمة بها. حتى أن بعضاً من هذه المصارف القليلة توسّل طرقاً ملتوية في تقويم جودة القرض قبل الالتزام بتوجيهات المعيار الدولي”. وإذ يحمّل فحيلي مسؤولية التقاعس في هذا المجال الى المدققين الموجودين في كل مصرف، يقول “للأسف، لم تكن تحمل المصارف مؤونات كافية نسبة لما هو مطلوب منها من المعيار الدولي”.
ختاماً، لاشك أن المصارف تواجه تحدياً جسيماً مع انكشافها في وقت واحد على ديون دولة عاجزة عن السداد، وعلى توظيفاتها في مصرف لبنان، وعلى قروض متعثرة للقطاع الخاص، لكن لن يكون تعاف لاقتصاد لبنان من دون قطاع مصرفي، ولا تعاف لهذا القطاع من دون الثقة به. من هنا فإن تنظيمه وإعادة رسملته بالشكل الملائم حتى يلعب دوره المنشود ليس خياراً.