بالانتقال من زمن دونالد ترامب إلى زمن جو بايدن، الشرق الأوسط بكامله يهتزّ، وبقوة. وتبدو الإدارة الأميركية في مناخات التراجع والانسحاب، من أفغانستان إلى إيران فالعراق وسوريا. فهل يَهرُب بايدن من «وجع الرأس» الشرق أوسطي، كما فعل باراك أوباما؟ وفي هذه الحال، ما التداعيات على المنطقة، ولبنان ضمناً؟
هناك مغزى عميق للنداء الذي وجّهته مؤسسات السلطة في أفغانستان إلى الإدارة الأميركية: «لا تنسحبوا، لأنّ الحروب الأهلية ستندلع هنا». لكن واشنطن مضطرة إلى الانسحاب. فالرئيس بايدن ورث من ترامب اتفاق الدوحة الذي وقَّعه مع طالبان في 29 شباط من العام الفائت، وهو ينصّ على الانسحاب التدريجي لقوات الولايات المتحدة وحلفائها خلال 14 شهراً، أي قبل نهاية الشهر الجاري.
حاول بايدن ترتيب موعدٍ متأخّر للانسحاب، له رمزيته، هو 11 أيلول 2021، الذكرى العشرين للهجوم على برجي التجارة. لكن طالبان تريد التنفيذ الآن «تحت طائلة المسؤولية». وإذا انسحب الجنود الـ2500 الباقون- من أصل 100 ألف كانوا هناك عام 2001- ومعهم نحو 7500 من القوات الحليفة، فالدولة الأفغانية ستقع تماماً في أيدي طالبان خلال عامين أو ثلاثة. وهو ما أبلغته المصادر الاستخبارية لبايدن، كما جاء في تقرير لـ»نيويورك تايمز»، الشهر الفائت.
وفي العراق، يعاني الأميركيون مأزقاً مشابهاً. فبايدن أعلن الرغبة في سحب الجنود الـ2500 هناك أيضاً، مع الإبقاء على مهمات محصورة، كتدريب القوى المسلّحة حتى تتمكن من مواجهة «داعش». لكن إيران وحلفاءها العراقيين يمارسون أقصى الضغوط لخروج القوات الأميركية.
وهذا الضغط على بايدن في أفغانستان والعراق يتلازم مع التصاعد الخطِر في الملف النووي الإيراني، حيث تزداد طهران تشدُّداً وتحدّياً. وقد أعلنت رفع مستوى التخصيب إلى 60%، ورمي المزيد من الشروط في وجه واشنطن، لإجبارها على العودة إلى اتفاق فيينا، كما هو.
وأما في سوريا، فالوضع الأميركي ليس بأفضل. ويبحث بايدن عن سبيل للخروج المشرّف من المنطقة الشمالية الشرقية. وعلى رغم أنّ روسيا مكلَّفةٌ رعايةَ تسوية تُرضي القوى الإقليمية كافة، ولاسيما إسرائيل، فإنّ إيران ما زالت تتحكّم بجسرها الممتدّ عبر العراق وسوريا إلى لبنان. والانسحاب الأميركي من سوريا سيمنح خصوم واشنطن تفوُّقاً لطالما انتظروه.
يحصل ذلك فيما التنسيق بين الأميركيين والإسرائيليين يبدو في عهد بايدن أدنى بكثير مما كان في عهد ترامب. بل يمكن الحديث عن تعارض في الاتجاهات والمصالح يتنامى، في الملف الإيراني ولكن أيضاً في الملف الفلسطيني.
فبايدن يضغط لفرملة الهجمة الاستيطانية الإسرائيلية في الضفة الغربية. وهو أفرج عن تمويل «الأونروا» الذي جمّده ترامب، وبدأ يمدّ الخيوط مع القيادة الفلسطينية لجذبها إلى المفاوضات، بعد طمأنتها إلى أنّه يدعم خيار الدولتين.
يعني هذا أنّ إدارة بايدة متعبة في الشرق الأوسط، فيما هي تضع نُصْب العينين استحقاقاتها العالية المستوى في مواجهة العملاق الصيني الصاعد، والذي يدكّ الأسوار في آسيا وأفريقيا. كما القيصر الروسي فلاديمير بوتين التي بادر إلى فتح المعارك الساخنة في الخاصرة الأوكرانية الضعيفة، وعلى أبواب الحلفاء في أوروبا الغربية.
كثيرون يعتقدون أنّ هذا «التعب» الأميركي في الشرق الأوسط سيقود إلى سلسلة من التنازلات والانسحابات. وفي الخضم، يسأل البعض: ماذا عن لبنان؟ هل سيتركه الأميركيون لمصيره ضمن «تخريجة» يتوصلون إليها مع الإيرانيين، أم سيدافعون عنه، لأنّ له موقعه المميّز في الاستراتيجية الأميركية؟
منذ وصول بايدن إلى البيت الأبيض، فَتَح خط اتصال مع حلفاء واشنطن الأوروبيين، ولاسيما فرنسا، حول لبنان. وبدورها فرنسا عمِلت على إنعاش الحضور العربي في لبنان (السعودي والمصري خصوصاً)، بهدف خلق مروحة أميركية- أوروبية- عربية تتولّى صيانة الوضع اللبناني ومنعه من الانزلاق أكثر نحو الهاوية.
تريد واشنطن من الأوروبيين والعرب أن يعملوا في لبنان تحت سقفها، أي منع إيران من الإمساك بالقرار. لكن إيران تشكّل تحدّياً للأميركيين يتجاوز حدود الساحة اللبنانية. فقد صعَّدت في الملف النووي، وقلَّصت خسائرها الناتجة من الحصار، وتتباهى في قدرتها على تحريك حلفائها في الشرق الأوسط بلا ضوابط، وأبرزهم «حزب الله».
ويبدو بايدن كأنّه، على خطى ترامب، يريد الحفاظ على خيط رفيع في لبنان: الضغط على منظومة السلطة في محاولة لإجبار «الحزب» على التنازل، ولكن، تجنُّب الوصول إلى انهيار لبنان وسقوطه. فالفكرة السائدة هي أنّ إيران هي القوة الأرجح للإمساك بالوضع حينذاك، وبصورة مطلقة.
هنا تكمن المشكلة: الأميركيون مُتعَبون ويوزعون انشغالاتهم على ملفات عديدة في الشرق الأوسط والعالم، والأوروبيون والعرب عاجزون عن مخالفة واشنطن وإنعاش لبنان «على عجل» و»كيفما كان». وفي هذه الحال، ستكون النيّات الطيبة موجودة، لكنها لن تكفي لإبقاء لبنان على قيد الحياة.
لبنان يترنّح اليوم، متأرجحاً بين الموت والحياة، مستسلماً للأطباء الذين يريدون فعلاً أن يمنعوا وصوله إلى الموت. لكن تضارب المصالح وزحمة الأيدي وتناقض الطروحات تَحرُم المريض من الرعاية السليمة. وفي هذه الحال، سيكون لبنان أمام خطر الموت، لا بالقتل عمداً بل نتيجة للإهمال أو للخطأ الطِبّي.