علي نور – أساس ميديا
انتظروا الأسوأ. فنحن نتوجّه إلى عزلة مالية كبيرة، ستكون أحوال اللبنانيين بعدها شديدة التعقيد، حتّى لمن يريد أن يشتري سلعاً “أونلاين”، عبر دولاراته “الفريش” مثلاً، أو لتجّار المواد الغذائية الأساسية والحيوية. وذلك لأنّ المصارف المراسلة ستتوقف عن التعامل مع مصارفنا بشكل نهائي، ويصبح لبنان جزيرة مفلسة ونائية جدّاً عن النظام المصرفي العالمي، في ظلّ منع تشكيل حكومة جديدة.
فالضجّة التي أثيرت أخيراً حول حسابات المصرف المركزي لدى المصارف المراسلة، والصعوبات التي يواجهها المصرف في فتح الاعتمادات في الخارج، لن تكون آخر المخاطر التي تهدّد صلة لبنان بالنظام المالي العالمي.
المصارف التجاريّة بدأت تعاني اليوم أزمةً أشدّ وطأة، بعدما بدأت تواجه ما يعرف بأزمة “إقصاء مالي” نتيجة توقّف معظم المصارف المراسلة في الخارج عن التعامل معها، إلى حدٍّ دفع بعض المصارف المحليّة إلى الاعتماد على مصارف محليّة أخرى للقيام بالحوالات وفتح الاعتمادات، نتيجة عدم توافر حسابات مراسلة لها في الخارج.
ما يواجهه لبنان نتيجة هذه التطورات ليس حصاراً أجنبيّاً، بمعنى العزل المتعمّد نتيجة قرارات رسميّة معيّنة، بل إقصاء ناتج عن ظروف المصارف اللبنانيّة نفسها، وارتفاع مخاطر العمل معها.
لا يمكن الاستخفاف بهذه التطوّرات أبداً، خصوصاً إذا استمرّت هذه الظاهرة لتشمل الغالبيّة الساحقة من المصارف المحليّة. فتداعياتها تبدأ من الصعوبات التي سيواجهها المستوردون في فتح الاعتمادات، حتّى لو كانت مقابل دولارات طازجة، وصولاً إلى التعقيدات التي ستنطوي عليها عمليّة تلقي الحوالات من الخارج. حتّى البطاقات المصرفيّة، المعزّزة بدولارات طازجة، لن تعود صالحة للاستخدام عبر الإنترنت إذا لم تتمكّن المصارف اللبنانيّة من العثور على مصارف مراسلة تسهّل عمليات الدفع في الخارج. كل ذلك سينتهي إلى العزلة التدريجيّة للبنان، وكأنّ اللبنانيين يعيشون من الناحية الماليّة في جزيرة نائية. أمّا المصارف اللبنانيّة فستتحوّل في هذه الحالة إلى صناديق سحب وإيداع فقط لا غير، تماماً كحال دول العالم القليلة التي تعيش خارج النظام المالي العالمي.
الحكاية الكاملة
تسرد مصادر مصرفيّة لـ”أساس” الحكاية الكاملة لأزمة المصارف اللبنانيّة مع المصارف المراسلة، وهي حكاية بدأت فصولها منذ سنة 2017، قبل أن تشتدّ تدريجيّاً خلال السنوات الماضية، وتصل للذروة خلال الأسابيع الأخيرة.
سنة 2017، قام “كوميرز بنك” الألماني بإقفال نحو 10 حسابات مصرفيّة مراسلة لديه تخصّ مصارف لبنانيّة، من دون تقديم أيّ شروحات أو تبريرات، ثم تلاه “دويتشه بنك” – الألماني أيضاً – بإقفال نحو 5 حسابات مراسلة دفعة واحدة. وعلى هذا المنوال، خطت مصارف “كريدي سويس” و”ويلز فارجو” و”يوني كريديت” ومصارف عالميّة أخرى خطوات مماثلة، فكانت الحصيلة إقفال 33 حساباً تخصّ مصارف لبنانيّة في مصارف مراسلة خلال سنة واحدة فقط، وهو ما مثّل سابقة غير مألوفة في تاريخ النظام المصرفي اللبناني، الذي لطالما عُرف بعلاقاته الجيّدة مع مراسليه.
استمرّت هذه الإجراءات وتوسّعت طوال سنة 2018 والنصف الأول من 2019. لم يرتبط السبب في ذلك الوقت بالأوضاع الاقتصاديّة المحليّة في لبنان، وخصوصاً أنّ المصارف لم تبدِ في تلك المرحلة أيّ علامة من علامات التعثّر الصريح. لكنّ لجوء المصارف اللبنانيّة إلى نقل معظم أرصدتها بالعملات الأجنبيّة إلى مصرف لبنان، نتيجة الهندسات الماليّة التي كان يجريها المصرف، أدّى إلى انخفاض قيمة الأرصدة المودعة في حسابات المصارف اللبنانيّة لدى المصارف المراسلة إلى حدودها الدنيا. ولهذا السبب، لم يعد لدى المصارف المراسلة الكثير من الشهيّة للتعامل مع المصارف اللبنانيّة، خصوصاً أنّ كلفة التعامل مع مصارف لبنان كانت مرتفعة أساساً نتيجة إجراءات مكافحة تبييض الأموال المشدّدة التي تفرضها في العادة المصارف المراسلة.
وقد مثّل امتناع الدولة عن سداد سندات اليوروبوند في آذار 2020 سبباً إضافيّاً للتضييق على حسابات المصارف في الخارج. فجزء كبير من الحسابات لدى المصارف المراسلة كان يقوم على مبدأ التسهيلات الممنوحة مقابل إيداع سندات اليوروبوند، التي تحملها المصارف اللبنانيّة، ضمانةً لهذه التسهيلات. وكانت هذه التسهيلات تشمل حسابات جارية مدينة بسقوف مرتفعة، استخدمتها المصارف تاريخيّاً لتمويل التحويلات والاعتمادات المفتوحة في الخارج.
بعد تعثّر الدولة، باتت قيمة سندات اليوروبوند – المودعة ضماناتٍ – منخفضة جدّاً قياساً إلى قيمتها الأساسيّة، وكان قد بدأ سعر هذه السندات بالانخفاض قبل أشهر من التعثّر. ولهذا السبب، بدأت المصارف المراسلة بالضغط لسداد قيمة التسهيلات وإلغاء سقوف التسهيلات الممنوحة، وإقفال الحسابات بعدما أصبحت ربحيّتها شبه معدومة بعد إلغاء التسهيلات.
التشدّد الأخير
خلال الأسابيع الماضية، وبعد أكثر من سنة وخمسة أشهر على تعثّر القطاع المصرفي، ونحو سنة على امتناع الدولة عن سداد سنداتها، باتت الأمور مهيّأة اليوم لموجة جديدة من التضييق على نشاطات المصارف في الخارج، ومن إقفال حسابات المصارف لدى المصارف المراسلة.
في هذه الموجة تصدّر المشهد “ستاندارد تشارترد” وHSBC من ناحية التشدّد في التعامل مع المصارف اللبنانية وإقفال حساباتها، فيما مثّلت المخاطر الائتمانيّة السبب الأساسي لهذا التشدّد.
ويقوم فتح الاعتمادات على مبدأ تقديم المصارف اللبنانية وعداً بالنيابة عن المستورد بسداد قيمة البضائع للمورّد بعد تقديم المستندات التي تثبت شحن هذه السلع باتّجاه لبنان، أو بعد فترة معيّنة من الشحن. وعمليّاً يشترط المورّدون في أغلب الحالات أن تعزّز المصارف المراسلة – التي تؤدّي دور الوسيط – هذا النوع من الاعتمادات، أي أن تكفل سداد المصرف اللبناني لقيمة هذا الاعتماد. وتحتاج هذه العمليّة إلى ثقة عالية بالمصارف اللبنانيّة وبقدرتها على السداد، وهو ما بات مفقوداً اليوم بعدما تجاوزت قيمة التزامات المصارف في الخارج موجوداتِها الخارجية بنحو 2.55 مليار دولار، في حين أنّ مصرف لبنان يمنعها من استخدام أموال إعادة الرسملة لسداد هذه الالتزامات.
ومع انعدام الثقة بالنظام المصرفي اللبناني، وفقدان المصارف القدرة على الحصول على أبسط التسهيلات في الخارج، تعثّرت علاقة المصارف مع المصارف الأجنبيّة، التي لم تعد ترى العملَ مع مصارف لبنان مجدياً. أمّا المسألة التي فاقمت الأزمة، فكانت تحوّل الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد نقديّ، يقوم على تداول العملة الورقية بالدرجة الأولى، وهو ما يرفع، وفق المصارف الأجنبيّة، مخاطر تبييض الأموال في السوق اللبنانيّة، ويدفعها إلى الحذر من العمل مع المصارف اللبنانيّة. وبالإضافة إلى ذلك، فاقم من سوداوية المشهد ما تسرّب طوال الأشهر الماضية من أخبار عن تهريب استنسابي لأموالٍ من النظام المصرفي اللبناني لصالح قلّة سياسيّة نافذة، على حساب سائر المودعين، وهو ما يرفع تلقائياً المخاطر القانونيّة الناتجة عن عمل المصارف الأجنبيّة مع المصارف اللبنانيّة.
لكلّ هذه الأسباب انحسر اليوم دخول النظام المصرفي اللبناني إلى الأسواق العالميّة حتى أدنى مستوياته، وأصبحت المصارف تعاني في تنفيذ أبسط العمليات المصرفيّة في الخارج.
حتّى اللحظة، لم يفقد النظام المصرفي اللبناني آخر صلاته بالخارج، نتيجة تساهل عدد قليل من المصارف الأجنبيّة بسبب علاقاتها القديمة مع المصارف اللبنانيّة. لكنّ ارتفاع منسوب مخاطر العمل مع النظام المصرفي اللبناني في المستقبل القريب جداً، سيعني خسارة حبل السرّة الأخير هذا، مع كل ما يعنيه هذا الأمر من تداعيات مؤلمة على المستوى المحلّي اللبناني.