… يَروي أحد العلماء المقرّبين من دار الإفتاء عن المفتي عبد اللطيف دريان، أنّ عامّة الناس هذه الأيام يأتونه مطالبين باتّخاذ الموقف الحاسم المتصدّي لكل التجاوزات والانحياز لطرف ضد طرف آخر في السياسة وكلّ الأزمات، فيما تأتيه النخبة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تحذّره من الانحياز والدخول في سياسة المحاور والمتاريس والمواجهات. ويواصل العالِم المذكور روايته عن المفتي ناقلاً عنه: “أنا أنحاز للحقّ ولمصلحة الأمّة ولهموم الناس. همّي الوحيد حفظ دماء اللبنانيين والمسلمين، وهذا عندي هو الأساس”.
لا يهتمّ المفتي دريان كثيراً بانتقادات بعض الناس، فالرجل لا يسعى لشعبويّة تُسِرُّ من يتبوّأ السلطة في كثير من الأحيان. هو حريص في هذه المرحلة، كما يؤكّد القريبون منه، على منع الفتنة وحفظ حياة الناس. فلا وجود للمغامرة في سلوكه. كلّ شيء يُدرس بعناية. ويَخْتمُ أكثر أحاديثه بعبارة: “أعان الله الناس”.
.. لم تكن رسالة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان، لمناسبة قدوم شهر رمضان المبارك، برسالة عادية، أو كتلك التي تُتلى في مثل هذه المناسبة كلّ عام، بل كانت بمنزلة رسالة فتوى في السياسة، والبلاء المصاب به الوطن، وهموم كلّ الناس.
وضع المفتي دريان في رسالة رمضان هذا العام مطالعة دقيقة للأزمة التي نعيشها، وضمّنها خارطة طريق للحلّ، وهو ما أكسبها صفة الرسالة التي تلامس “الفتوى”:
أ- في التوصيف:
حسم المفتي دريان توصيف الأزمة الحاصلة وجرأة البعض على حصر الأزمة بالدستور تمهيداً لفتح باب التعديل، وهو باب إن فُتِح سيكون بمنزلة المسّ بالمصير، فقال: “ليست في البلاد أزمة دستورية، بل البلاد ضحية الاستئثار والانهيار، والارتهان للمحاور، والتدمير المتعمّد للمؤسّسات، والاعتداء على عيش المواطنين واستقرارهم وأمنهم”.
ب- خارطة طريق الحلّ:
رسم المفتي دريان خارطة طريق سياسية للحلّ تقوم على أمرين:
1- تحمّل السلطة مسؤوليتها، بتخلّيها عن كراسيها عبر بوابة تداول السلطة: “فاجِعَةٌ مِثلُ فَاجِعَةِ المَرفَأ، وَيَظَلُّ المَسؤولونَ على كَرَاسِيهِمُ الفَارِهَة؟ وهلْ سَمِعْتُمْ ببلدٍ حَدِيثٍ تُقْفَلُ مَصارِفُهُ، وَيَسمَحُ نِظامُهُ السياسِيُّ بذلك، بَعدَ أنْ يَكونَ ثُلُثَا وَدَائعِ المُواطِنين قد صَارَ في جَيْبِ أو جُيوبِ مَا يُسمَّى الدَّولة، والثُّلُثُ الثالِثُ قد جَرَى تَهرِيبُه إلى الخَارِج، وَمِنْ جَانِبِ المَسؤولينَ غَيرِ المَسؤولين إيَّاهُم؟!”.
2- الإسراع في تشكيل حكومة مسؤولة: “نريد حكومة نستطيع التوجّه إليها، وليس مزاعم بشأن البراءة والصلاحيات والحقوق الفئوية، في الوقت الذي لم يبقَ فيه مواطنون ولا حقوق”. وسبق المفتي ذلك بطرح تساؤل: “هل هو مطلب عسير أن تكون في البلاد حكومة مسؤولة؟”.
ج- في مسؤوليّة المجتمع:
شدّد المفتي دريان في رسالته على ضرورة التكافل الاجتماعي مع غياب الدولة ومؤسساتها لمواجهة الأزمة الاجتماعية والمعيشية، فخاطب الناس: “ليسَ لنا بعدَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ إلاّ أنفسُنَا ومَسَاعينا وتَعاوُنُنَا وتَضَامُنُنَا. لقد هَبَّ أهلُ بيروتَ – مَسيحيّين ومسلمين – هَبَّةً واحِدةً عندَمَا نَزَلَتْ بالمدينةِ كارِثَةُ انفجارِ المَرفأ، ودَمارِ ثُلُثِ المدينة. لكنَّهُمْ بِالأمسِ واليَومَ وغَداً، مَدعُوُّون إلى ما هو أَعظَمُ وأَشَدُّ إلْحَاحَاً. فقد صارَ مُخْجِلاً الحَدِيثُ عَنِ القادِرِينَ وغَيْرِ القادِرين، ما عادَ أحدٌ تَقريباً قادِراً. ما عادَ لنا إلاّ أنْ نتقاسَمَ القليل، ونَتشارَكَ في القليلِ الذي يَمتَلِكُه كُلٌّ مِنَّا”.
د- في مسؤوليّة العرب:
وجّه المفتي دريان نداء إلى الأشقّاء العرب ووصفه “بنداء الرجاء والاستغاثة والأمل”، فقال: “تَعَوَّدْنا ألَّا تَنسَوْنَا في الشَّدائِد، ونحن لنَا مِلءُ الثِّقةِ بِكُم، وبمُؤازَرَتِكم، ودعمِكُم، ومُسَاعَدَتِكم، فلا تَتَخَلَّوا عنَّا ولا تترُكوا الشَّعْبَ اللبنانيَّ في ضَيَاعِه، كي لا يكونَ فريسةً سهلةً لِمَنْ يُريدُ بلبنانَ واللبنانيِّين شَرَّاً”.
يتداول أهل الفكر والسياسة في لبنان أنّه عندما يتراجع الزعماء والساسة عن مسؤولياتهم، يتقدّم رجال الدين والعلماء. هكذا فعل المفتي الشهيد حسن خالد بمواجهة حافظ الأسد، وهكذا فعل البطريرك مار نصر الله بطرس صفير في تحقيق الاستقلال الثاني. وهكذا يفعل اليوم المفتي عبد اللطيف دريان كما يفعل البطريرك الماروني بشارة الراعي في سعيهما لتحقيق الاستقلال السياسي الثالث لإنقاذ لبنان.