على امتداد التاريخ، احتلّ مرفأ بيروت على شاطئ الساحل الشرقي للبحر المتوسط أهمية كبرى، لكونه حلقة وصل في التجارة بين الشرق والغرب. وقد وردت المعلومة الأولى عنه قديماً من خلال الرسائل المتبادلة بين مصر وفينيقيا في ما يعرف بـ”رسائل تل العمارنة”.
ازدهر المرفأ في العهد الروماني، حين رمّمه أغسطس قيصر على هيئة هلال، واستمرّ في التطوّر ليصبح مركز الأسطول العربي الأول في العهد الأموي. وقد أولته الدولة العثمانية عناية خاصّة، وجهّزته عسكرياً وتجارياً، ثم تعزّزت مكانته في عهد بشير الشهابي، وصولاً إلى فترة الحكم المصري.
برزت أهمية المرفأ في العصر الحديث بعد انتهاء فترة الاحتلال الفرنسي وحتى بداية الحرب الأهليّة في لبنان، التي استمرت من العام 1975 وحتى العام 1990، ليستعيد بعدها عافيته تدريجياً، وصولاً إلى الكارثة التي حصلت العام المنصرم.
مرّت 8 أشهر على كارثة انفجار مرفأ بيروت الذي وقع في 4 آب/أغسطس 2020، وما تزال الأجزاء المدمّرة منه والمناطق المحيطة به على حالها، من دون أن تبدأ إعادة الإعمار، فالدولة اللبنانية العاجزة عن المباشرة بإعادة الإعمار أهملت عرضاً صينياً وصل بعد ساعات على الكارثة، يقضي بتبنّي شركة صينية – ثاني أكبر شركة صينية عاملة بالمرافئ في العالم – إعادة إعماره.
تكشف أوساط متابعة لـ”الميادين نت” أن الرسالة الصينية وصلت إلى المسؤولين اللبنانيين، ولكنهم لم يكونوا على استعداد للاستماع إلى تفاصيل العرض الصيني والنظر به، ثم أتى الدخول الفرنسي المباشر على الخط، من خلال زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبيروت بعد أقلّ من 48 ساعة على التفجير، ليقف اللبنانيون بالصفّ طالبين من فرنسا أخذ المرفأ بثمن بخس، لكنّ مسعى الرئيس ماكرون الذي اصطحب معه خلال زيارته شخصية من أصول لبنانية سورية تملك أكبر شركة نقل في البحر المتوسط، بهدف تولّي وزارة الأشغال في حكومة المهمّة وتولي إعادة إعمار المرفأ، لم ينجح.
عندها، اكتشف ماكرون أنّه يواجه مشكلة حقيقية في حصول فرنسا على امتياز المرفأ بهذا الشكل، لتبدأ مرحلة أخرى، عمل خلالها الفرنسي مع الإماراتي الذي يستثمر في ميناء حيفا بعد التطبيع للظفر بإعادة إعمار مرفأ بيروت، إلّا أنّ المهمة فشلت مجدداً، ليتجه الفرنسي إلى الحديث إلى الكويتي والدخول على خط تولّي إعادة الإعمار، من دون أن تنجح المهمّة من جديد. بعدها، حاول العمل مع المصري، في مسعى لإدخال شركة صينية في هذا المجال، من دون النجاح في ذلك أيضاً.
أمّا الدخول الألماني الأخير على خط إعادة ترميم المرفأ عبر شركات خاصّة، بمشروع يتضمَّن مليارات الدولارات، فهو يقوم على تقسيم المرفأ إلى قسمين؛ قسم يشمل محطة الحاويات وما يرافقها، وقسم آخر يتمّ تطويره لبناء مدينة نموذجية صغيرة مُخصّصة للسياحة، ستكون عبارة عن أبنية خضراء وحديقة ومطاعم وشاطئ رملي.
ومن المقدّر أن تبلغ كلفة المشروع الذي سيتمّ على مراحل تمتدّ إلى عشرات السنوات بين 5 و15 مليار دولار، لكنّ المشروع الألماني يطالب بحكومة تتضمن مواصفات إصلاحية، وبالتالي تستطيع وضع برنامج بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وهو أمر صعب.
وفي التفاصيل، لا تستطيع أي شركة غربية الدخول إلى السوق اللبناني، بعد أن أعلن لبنان تخلّفه عن دفع سندات اليورو بوند، وأصبح يعيش حالة من التعثر منذ 7 آذار/مارس 2020، ما يفرض على أيّ شركة غربيّة الدخول إلى لبنان بموافقة صندوق النقد الدولي وكفالة البنك الدوليّ، في الوقت الذي لا تستطيع الدخول بنظام الـ”BOT” أو سواه، إلّا إذا تنازلت عن هذا الشرط الذي لا يمكنها التنازل عنه. لذا، يحتاج العرض الألماني إلى خطوات ومراحل كثيرة.
كشف الخبير الاقتصاديّ حسن مقلد لـ”الميادين نت” أنّ الروس لم يكونوا مهتمين بالعمل في لبنان منذ 5 سنوات، بخلاف الصينيين الذين “قتلوا حالن” للعمل فيه، بالتعبير اللبناني، ولكن لبنان لم يتح لهم المجال، بغض النظر عن الوعود اللبنانية.
ويوضح مقلد، نقلاً عن مسؤولين روس كبار في وزارة الخارجية وكبرى الشركات، أنّ روسيا اتخذت قراراً بالدخول إلى لبنان سياسياً واقتصادياً ومالياً واجتماعياً وثقافياً، لافتاً إلى أنّ روسيا الموجودة عسكرياً قرب لبنان ليست بحاجة إلى تواجد عسكري مباشر، وهي بمجرد أنّها بلّغت باهتمامها بمرفأ بيروت، سواء عبر دخولها المباشر أو بطريقة غير مباشرة عبر الهند والصين وماليزيا أو إندونيسيا، ويسري هذا على كل الشرق، وهؤلاء ليسوا بحاجة إلى برنامج صندوق النقد الدولي أو كفالة البنك الدولي، ويعتبر أنّ هؤلاء يعملون بآليات مختلفة.
ويضيف: “بعد القرار الروسي، أبدى الألمان جهوزيتهم للقدوم إلى لبنان، لكن ضمن شروط، وفي ظل حكومة إصلاحية تضع برنامجاً بمشاركة صندوق النقد الدولي”، لافتاً إلى أنّ الروسي مستعدّ لإنشاء “كونسورتيوم” (consortium) واسع يتضمّن عدة دول.
ويدعو مقلّد إلى التفكير في العراق، نظراً إلى أن 50% من المرافئ في لبنان تعمل لمصلحته، وهو بوابة الاستيراد من البحر المتوسط عبر لبنان، رافضاً بيع أصول البلد بالسياسة عبر إرضاء هذا وذاك، معتبراً أن دخول 3 أو 4 مليارات دولار من الخارج يغيّر وضع البلد كلياً إذا ما أحسن استخدامها.
ويذكّر بفيتو السفيرة الأميركية دوروثي شيا عندما التقت رئيس الحكومة حسان دياب قبل استقالته على مأدبة غداء في السرايا، ورفضت أيّ دخول روسي أو صيني أو إيراني إلى لبنان، وهو لا يستبعد إمكانية تعطيل العرض الروسي، وخصوصاً أنّ موسكو لم تكن تتصرّف على قاعدة أنّ لبنان جزء أساسي من استراتيجيتها في المنطقة، إلّا أن الوضع تغيّر الآن، داعياً إلى مراقبة السلوك الروسي وكيفية ترجمته.
وهنا نسأل: هل سيتجه لبنان شرقاً لإعادة إعمار المرفأ وتطوير بنيته التحتية وتنمية اقتصاده أو أنّ الخشية من السيد الأميركي ستترك البلاد غارقة في أتون الأزمات والتخلّف؟
المصدر: الميادين