أمين قمورية- 180Post
لم تتضح معالم ما يجري في الأردن حتى الآن، لكن عدم اعتقال ضباط كبار، وعدم وجود اية تحركات عسكرية في العاصمة وباقي المدن، يُضعف فرضية المحاولة “الانقلابية” ويرجح “العملية الإستباقية”.. ولأسباب داخلية بالدرجة الأولى. لا يمكن فهم ما يجري في الاردن، من دون فهم هذا الكيان وهواجسه. بلد قليل الموارد، صغير المساحة، يقع في حيز جغرافي حساس وصعب للغاية.
هو صاحب الحدود الأطول مع فلسطين المحتلة، ويجاور دولاً عربية اخرى يتصالح معها حيناً ويختلف معها احياناً اخرى. مرة تكون هذه الدول في موقع الصديق ومرات اخرى في موقع الخصم والعدو. بلد يبقى مُحاصراً بين هاجسين: هاجس الوطن البديل، وهاجس التآكل في مشاريع الآخرين.
استراتيجية البقاء تتقدم على استراتيجية الدولة والمجتمع، وإن تقدمت أحياناً أولويات المجتمع والدولة على بقاء النظام. لذلك يصارع هذا البلد من اجل الا يتم تذويب دوره او وجوده تحت وطأة ظروفه او ظروف جيرانه أو ظروف الإقليم عموماً. يواجه الاردن ازمة عميقة متعددة الوجوه، داخلياً واقليمياً، يعكسها إرتفاع منسوب الاستياء الشعبي من الأزمة الاقتصادية والإجتماعية المتفاقمة والتي زادت عمقا نتيجةَ إجراءات الإغلاق المتخذة منذ ما يزيد على سنة بسبب جائحة كورونا، ما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة بينما تجاوز الدين العام مئة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
وتشكو عمان من انخفاض المساعدات الدولية، وتقول إن استضافة اللاجئين السوريين (كتلة مليونية بين مسجلين في لوائح المفوضية ومنتشرين في عمان والمحافظات الأردنية) كلفتها أكثر من عشرة مليارات دولار في السنوات العشر الأخيرة. ومع تدهور الوضع الاقتصادي، استغنى الملك عبدالله الثاني، الذي حصر همّه في كيفية دفع وليّ العهد الأمير الحسين إلى الواجهة، عن مراكز القوى التي كانت تؤدي في الماضي دورا يغني القصر الملكي عن التصدي المباشر للأزمات.
ويوضح عارفون في الشأن الاردني ان ثلاثة مراكز كانت تشكل درعا للمؤسسة الملكية، هي: رئاسة الديوان الملكي، رئاسة الوزراء ومديرية المخابرات. ولطالما كانت تشغل هذه المواقع شخصيات بارزة على تماس يومي مع الشارع الأردني وهمومه، وخصوصاً مع العشائر. ويضيف هؤلاء ان الملك ذي الشخصية العسكرية فضّل إلغاء الأدوار السياسية لرئيس الديوان ورئيس الوزراء ومدير المخابرات ووضع في هذه المواقع موظّفين عاديين لا يردون له طلباً.
أمّا المشكلة الاكبر التي يواجهها الاردن على الصعيد الإقليمي، فهي فقدان الدور الذي كان يضطلع به في الماضي، خصوصاً في ضوء ما حل بالعراق الذي كان يزوّده بالنفط بأسعار تشجيعية. ولا شك في ان اتفاقات التطبيع التي ابرمت اخيرا بين الدول الخليجية واسرائيل، أضعفت دور المملكة ووظيفتها التي شكلت لفترة طويلة حلقة وصل بين إسرائيل وبقية الدول العربية لا سيما الخليجية منها. والارجح ان التقارب الخليجي الاسرائيلي على حساب الفلسطينيين الذين يشكلون نصف سكان الاردن، عزّز التوتر بين عمان من جهة وكل من الامارات والسعودية واسرائيل من جهة اخرى (يسري ذلك أيضا على إدارة دونالد ترامب). وثمة خشية أردنية في ان تستغل الرياض التودد مع اسرائيل، من اجل تولي الإشراف على المقدسات الاسلامية في المسجد الاقصى بدلا من الرعاية الهاشمية. كذلك، هناك تجاهل لا بل إهمال إسرائيلي متعمد لمصالح الأردن برغم وجود اتفاقية سلام بين البلدين. وهذا التجاهل بعضه سياسي وبعضه الآخر ناتج عن علاقة شخصيّة سيئة بين عبدالله الثاني وبنيامين نتنياهو بلغت ذروتها مع إلغاء زيارة ولي العهد الأردني الأمير الحسين بن عبدالله إلى المسجد الأقصى في ذكرى الإسراء والمعراج، وذلك على خلفية الشروط التي وضعها الإسرائيليون على الزيارة، خلافاً لمندرجات إتفاقية وادي عربة التي تقر بالسيادة الأردنية على الأماكن المقدسة في القدس. وقد سارع الأردنيون إلى الرد بحظر الاجواء الأردنية أمام الطائرة التي كانت ستقل نيتنياهو من تل أبيب إلى أبو ظبي، أكثر من مرة، الأمر الذي أجبر الأخير على إلغاء رحلته. وقد سبق ذلك جبل من المشكلات بين البلدين في شأن “صفقة القرن”، والخلاف على غور الاردن “المؤجر”، وفرض السيادة الاسرائيلية على القدس، واستقبال نتنياهو المستفز لحارس السفارة الاسرائيلية في عمان الذي قتل مواطنين اردنيين بدم بارد بدلا من محاكمته، علماً أن عمان كانت قد رفضت السماح له بمغادرة الأراضي الأردنية وإشترطت التحقيق معه!
هذه الوقائع مجتمعة، من شأنها طبعا ان تجعل المؤسسة الملكية، تخشى او تتحسب ان يتكرر في الاردن ما حصل في دول عربية اخرى، من استغلال بعض القوى الداخلية بدعم خارجي، سيل الازمات الإقتصادية والاجتماعية من اجل تحقيق اجندات سياسية وفرض شروط لا علاقة لها بمصلحة الناس. وفي غياب مؤشرات دامغة على وجود انقلاب فعلي، كان يعد له من أوقفوا، في ما اعتبرته عمان، الضلوع بمؤامرة تستهدف “امن البلاد واستقرارها” بـ”الاتصال مع جهات خارجية”، فالارجح ان ما قامت به هذه المؤسسة هو عملية اجهاض مسبقة، لمحاولة تنظيم احتجاجات تبدو كأنها “انتفاضة شعبية مع وجود جماهير في الشارع” بدعم قبلي واسع، بهدف اشعال “ربيع اردني” يُحَجّم دور الملك عبد الله ويمكن أن يُعيد الإعتبار إلى الأمير حمزة الذي أقصي من ولاية العهد بطريقة دراماتيكية.
وبالتدقيق في اسماء ابرز المتهمين، وفي التوقيت، وفي الاخراج، يمكن الاستنتاج ان العملية الاستباقية توجه رسائل في اتجاهات عدة:
أولاً، الى العائلة الحاكمة نفسها، ذلك ان الخطر الاكبر على الملك وابنه ولي عهده، ياتي ممن يحمل الشرعية الهاشمية، وهذا ما ينطبق على حمزة بن الحسين، الاخ غير الشقيق للملك الذي حرم أولاً من العرش ووراثة والده الملك بسبب صغر سنه آنذاك ، وثانياً من ولاية العهد التي اجبر على التخلي عنها لمصلحة ابن اخيه غير الشقيق. ومع ذلك فان حمزة الذي كان يدلي بين الحين والآخر بآراء سياسية ينتقد فيها الفساد المستشري، يتمتع بشعبية نسبية. وساعدت وسائل التواصل الاجتماعي في إزدياد شعبيته وحضوره الكاريزماتي، من دون إغفال حقيقة وجود حنين في دوائر أردنية ضيقة للملك الراحل الحسين من خلال شخصية الأمير حمزة الذي يشبهه ويحتفظ مع والدته الملكة نور بعلاقات قوية مع الولايات المتحدة ولا سيما مع شخصيات فاعلة ومؤثرة في الحزب الديموقراطي. ويمكن القول إن الرسالة وصلت بدليل البيان الأخير للأمير حمزة والذي أعلن فيه وضع نفسه بتصرف الملك الذي قرر معالجة قضية حمزة ضمن إطار المؤسسة الهاشمية حيث أوكل الأمر إلى عمه ولي العهد الأسبق الأمير الحسن، وفي ذلك إشارة ضمنية إلى الخطأ الذي إرتكبه الملك بإيكال قضية الأمير حمزة إلى ضابط، في خطوة غير مسبوقة ضمن الأسرة نفسها.
ثانياً، الى المتمردين والساخطين من أعيان العشائر الكبيرة، اذ كان لافتاً للإنتباه توقيف وجهاء من عشيرة المجالي صاحبة النفوذ الكبير في الأردن وأبرزهم ياسر المجالي، ما أثار استياء اعيان هذه العشيرة، علماً أن التركيبة العشائرية في الأردن تنسحب حضوراً وازناً في المؤسسات الأمنية التي تشكل حجر زاوية المنظومة الحمائية للنظام الملكي الهاشمي في الأردن.
ثالثاً، الى الدول المجاورة لا سيما السعودية التي تسلل نفوذها إلى بعض الدوائر الأردنية، سواء في مفاصل عسكرية أو إقتصادية ومالية وحتى ضمن القصر الملكي. ومن أبرز المؤشرات توقيف باسم عوض الله رئيس الديوان الملكي سابقاً وشريك ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان لاحقاً، علماً ان لا معلومات تؤكد وجود علاقة بين عوض الله والامير حمزة.
رابعاً، الى الولايات المتحدة، عبر استدراج عروض بان المملكة لا تزال تملك القدرة في الحفاظ على استقرارها برغم التهديدات الكبيرة التي تتعرض لها من الداخل والخارج، ومن الواضح ان واشنطن تلقفت هذه الرسالة برد سريع يؤكد على دعم الملك وسط احجام اسرائيلي عن ادانة المحاولة الانقلابية، على امل ان يساهم هذا “العطف الاميركي” في تخفيف الضغوط الاسرائيلية والخليجية على الأردن.
في مطلق الاحوال، ما جرى في الاردن في نهاية الأسبوع الماضي، ليس حدثاً عابراً، ويبقى أمراً غير عادي في هذا البلد الذي يتغنى بالإستقرار فوق فوهة بركان يغلي على إمتداد جغرافيا الإقليم، فهل يظل الأردن قادراً على العيش داخل خرائط المنطقة وإهتزازتها وخارجها في آن؟ وهل يمكنه مواصلة السير بين الأفخاخ والألغام بلا أضرار؟