لم تخرج المملكة العربية السعودية من لبنان لكي تعود. لطالما شكّل لبنان الملاذ الآمن للسعوديين، أمراء وغير أمراء، وواحة عمل وطريقة حياة واستراحة. ولطالما شكّلت المملكة ملاذاً مماثلاً للكثير من اللبنانيين الذين ذهبوا إليها محمّلين بخبراتهم وباندفاعهم إلى العمل في كل المجالات التي أعطت للملكة أسباباً كثيرة للإزدهار والبناء. لطالما كان هذا التبادل الإنساني والخدماتي والمالي والتعاون السياسي في مصلحة البلدين، حتى أتت الساعة التي حوّل فيها “حزب الله” هذه العلاقة إلى صراع وحروب وصواريخ وتهديدات. في لبنان فقط كان بإمكان الأمير طلال مثلاً أن يتزوج منى الصلح ابنة رياض الصلح في 22 تشرين الأول من العام 1954 وأن يقيم احتفالين في النورماندي والبريستول. وفي لبنان فقط كان بإمكان الأمير فهد أن يحتفل بزواجه ايضاً وأن يتمّ توزيع صوره مع عروسه.
وفي لبنان فقط كان بإمكان الملك سعود أن يزوره في العام 1957 ويتنقل بين بعلبك وسباق الخيل وعدد من المناطق، ويصلّي في الجامع العمري في وسط بيروت وأن تستمرّ الزيارة عدة أيام. وفي لبنان فقط ربّما كان بإمكان بعض مؤيّدي الرئيس جمال عبد الناصر في تلك المرحلة أن يتظاهروا أمام الجامع ضد زيارة الملك. صحيح أن هوى بيروت وأهلها من السنّة كان مع عبد الناصر في ذلك الوقت، ولكن هذا الأمر لم يجعل السعودية تقطع علاقاتها مع لبنان. عكس هذا الأمر كان مقدّراً أن يحصل. فقد انتهى عهد الناصرية وبقي حضور المملكة العربية السعودية مستمراً. اليوم مع التجربة القاسية التي يمثّلها “حزب الله” ضد المملكة لن تكون النتيجة مختلفة. فالمملكة تتصرّف على أساس أنّها شِدّة وتزول وأنّ ما بُني بين لبنان والمملكة لا بدّ سيعود كما كان. في 19 أيلول 1962 وصل إلى بيروت وليّ العهد السعودي الأمير فيصل في طريقه إلى الولايات المتحدة الأميركية. صباح الخميس 27 أيلول استفاق العالم على خبر انقلاب عسكري في اليمن أعلن بعده الإنقلابيون قيام الجمهورية. بدا واضحاً أن النظام المصري كان وراء الإنقلاب الذي لم يكن كاملاً بسبب تمكّن الأمير البدر من النجاة بعدما اعتقد الإنقلابيون أنّه قُتل في مقرّه. وسرعان ما بدأ الدعم المصري يصل إلى السلطة الجديدة عبر ميناء الحُدَيدَة الذي يدور حوله اليوم صراع كبير بسبب الحرب الدائرة في اليمن، والتي بسببها يتمّ استهداف المملكة بالصواريخ الموجّهة والطائرات المسيّرة بمباركة من “حزب الله” وأمينه العام السيد حسن نصرالله.
كان الأمير فيصل لا يزال في واشنطن عندما صدرت الأوامر الملكية السعودية بتكليفه تشكيل حكومة جديدة لمواجهة ما يحصل في اليمن والتهديد الذي تتعرّض له المملكة. عبر مطار بيروت كانت عودة الأمير إلى السعودية. وصل إلى بيروت في 21 تشرين الأول 1962 وأقام في فندق السان جورج والتقى الرئيس فؤاد شهاب في 25 تشرين الأول، قبل أن يعود على متن طائرة ملكية إلى المملكة ليقود المواجهة الصعبة. في بداية آذار وخلال جولة له داخل المملكة أعلن: “نحن لا نخشى الحرب وإذا لم يكن من الموت بُدّ فلنمُت بشرف”. وفي بداية كانون الأول من العام نفسه أضاف: “لربّما يظنّ البعض أنّنا قد نتردّد في خوض القتال خوفاً من تعريض العرش، أو القصور التي نسكن، أو الراحة التي نعيش فيها للخطر. إنّني أسارع إلى تصحيح هذا الإعتقاد فأقول إنّنا نجد أنفسنا في مكاننا الطبيعي عندما نخرج من مكاتبنا وقصورنا لنحمل السلاح خدمة لشعبنا وبلادنا…”
هذه الصورة التي عبّر عنها الملك فيصل يمكن أن تكون هناك نسخة مكرّرة عنها في الصراع الحالي الذي تواجهه المملكة في اليمن. في مرحلة حرب الستينات كان هناك اعتقاد لدى عبد الناصر أنّه بمجرّد حصول انقلاب ناجح في اليمن يمكنه أن ينقل الثورة إلى داخل المملكة وأن يُسقط النظام الملكي، على أساس أن هذا النظام لا يقاتل ولا يمتلك عناصر القوّة. ولكنّ الواقع أثبت عكس ذلك، بدليل أن المملكة هي التي انتصرت في ذلك الصراع الذي امتدّ على مدى سبعة أعوام وانتهى إلى تسوية يمنية أنهت عصر الثورة. اليوم قد تكون هناك تصوّرات لدى النظام الإيراني مماثلة لتلك التي كانت لدى النظام في مصر، وقد يكون هناك اعتقاد أن جماعة الحوثيين في اليمن تستطيع أن تنتصر على النظام الملكي في السعودية على قاعدة أنّ هذا النظام لا يمكن أن يقاتل ولا يريد، ولا يمتلك عناصر القوة التي تؤهّله للقتال. ولكن بعد ستة أعوام على إعلان الملك سلمان “عاصفة الحزم” والتدخّل في اليمن لمنع سيطرة الحوثيين على كل اليمن، لا تزال المملكة العربية السعودية في حالة قتال ولو كانت مكلفة. وقد اثبتت مرة جديدة أنّها نظام قوي ويقاتل.
خلاف “حزب الله” مع السعودية لم يبدأ في حرب اليمن. منذ تأسيسه كانت هناك حال عداء مع المملكة لأنها كانت على خلاف عقائدي وسياسي مع الثورة الإسلامية في إيران، التي جعلت تصدير الثورة إلى دول الخليج هدفاً أساسياً لها. ومن هنا كانت حرب الخليج الأولى مع العراق التي استمرّت من العام 1980 حتى العام 1987 وانتهت بإعلان الإمام الخميني موافقته على وقف إطلاق النار. أكثر من ذلك فقد اتهمت المملكة “الحزب” بأنّه كان وراء عمليات تفجير حصلت في داخلها. وهذه العلاقة العدائية مع المملكة كانت تنعكس بطبيعة الحال على العلاقة مع الرئيس رفيق الحريري، الذي كان “الحزب” يعتبره أحد أذرع المملكة السياسية في لبنان، وفي المقابل كانت المملكة تعتبر “الحزب” أحد أذرع إيران في المنطقة وفي لبنان تحديداً. ولكن علاقة المملكة مع لبنان لم تبدأ مع الرئيس رفيق الحريري بالطبع ولا تنتهي إذا حصل خلاف مع الرئيس سعد الحريري. في العام 1976 رعت المملكة حلاًّ مرحلياً لإنهاء الحرب في لبنان مع قرار قمة الرياض المصغّرة تشكيل قوات ردع عربية، شاركت فيها المملكة رمزياً، قبل أن ينقلب النظام السوري على هذا الحلّ بعد عام واحد نتيجة زيارة الرئيس أنور السادات إلى القدس، واتهام المملكة بأنها من المحور الأميركي المشجّع على السلام مع العدو الإسرائيلي. وفي العام 1989 رعت المملكة في الطائف المؤتمر الذي أدى إلى اتفاق الطائف واعتماده دستوراً جديداً للبنان أخرجه من الحرب، قبل أن ينقلب عليه النظام السوري مرّة ثانية ليتمكّن من فرض سيطرته على لبنان واحتلاله. وبعد حرب تموز 2006 بين “حزب الله” وإسرائيل لم تتوان المملكة عن تقديم الدعم إلى لبنان من أجل أن يتعافى من جراح هذه الحرب، ولم تتأخّر المملكة في مدّ لبنان بالدعم المالي حتى يخرج من أزماته المالية، على رغم أنها اعتبرت أن اغتيال الرئيس رفيق الحريري كان موجّهاً ضدها بشكل رئيسي، وعلى رغم يقينها بأنّ محور إيران ونظام الأسد متّهمان بهذه العملية.
ولكن بعد استهداف “حزب الله” للمملكة بالتهديد وبعد الحرب في سوريا واليمن، لم تعد المملكة تضع لبنان في مقدمة اهتماماتها. لماذا تساعد بالمال والموقف في المكان الذي تتهدّد منه؟ ولماذا يعتبر البعض أن لبنان نقطة ضعف المملكة ويمكن ابتزازها من خلاله؟ موقف المملكة بعدم التدخل هو تدخل في حدّ ذاته. الإمتناع عن المساعدة لا يعني أن المملكة انسحبت أو تركت لبنان. صحيح أنّ أكثر من سفير لها في لبنان عانى من الملاحقة الأمنية والتهديد المباشر، وأنّ أكثر من سفير اضطرّ إلى ترك لبنان بسبب التهديدات المباشرة، وأنّ المملكة نصحت أكثر من مرة رعاياها بمغادرة لبنان، ولكن المملكة في النتيجة، إذا غابت بعض الوقت، لا ترغب في ترك لبنان ولا يمكنها أن تستمرّ في دفع ثمن دعمها له ولدوره في المنطقة ولحضورها فيه. وهي أعلنت أنها لا تريد إلّا أن تكون هناك حكومة مستقلّة بغضّ النظر عمّن يكون رئيسها ويهمّها البرنامج أكثر من الشخص. وهي بهذه الطريقة تستمرّ في القتال دفاعاً عن نفسها وعن دورها ضدّ التهديد الذي يأتيها من اليمن والوعيد الذي يصدر ضدّها من لبنان. مرّة جديدة تثبت المملكة أنّها نظام مقاتل ليس من السهل محاربته وأنّ الزمن يصبّ في مصلحتها في النتيجة، لأنّها تمتلك أيضاً عناصر كثيرة للقوّة في صراع طويل.