لبنان يُسجّل أرقاماً قياسية جديدة بتأخير التحقيق المحاسبي المركّز في مصرف لبنان كفّة ميزان “التدقيق الجنائي” ترجح من جديد لمصلحة التعطيل
الإجتماع الذي كان من المفترض به أن يكون مصيرياً، أعاد إلى الواجهة السؤال الجوهري البسيط: هل سيكون هناك تدقيق جنائي؟ نعم أم لا؟
فعلياً، لا أحد يملك الجواب الشافي. ولا نقصد هنا الرأي العام والمتابعين والخبراء الماليين والحقوقيين، إنما المعنيين المباشرين. فـ”المالية” يبدو أنها لا تمتلك مفاتيح الحل والربط، ولم تتبلغ بعد القرار بالضغط للسير بالتدقيق. و”المركزي” يستغل الفرصة، ويستمر في سياسة التمييع وتضييع الوقت. أمّا الشركة الموكلة، فلم تقرر بعد ما إذا كانت ستتابع بالتدقيق حتى لو توفرت لها كل المعطيات والتسهيلات.
التأخير يشي بالنية الحقيقية
بالأرقام والتواريخ يَظهر، بحسب المحامي والبروفسور في كليات الحقوق د. نصري دياب، “مرور سنة وأسبوعين على تكليف الحكومة، وزير المالية اتخاذ ما يلزم من إجراءات مع مصرف لبنان ومع الجهات ذات الصلة بهدف القيام بعملية تدقيق محاسبية مركّزة، و7 أشهر وأسبوع على توقيع عقد التدقيق مع شركة ALVAREZ & MARSAL، و3 أشهر وأسبوع على إصدار مجلس النواب القانون 200/2020 القاضي بتعليق العمل بأحكام سرية المصارف لمدة سنة واحدة تنتهي في 31 كانون الأول 2021”. أهمية تفصيل المهل الزمنية وإظهارها بوضوح، “لا تدلّ على تضييع الوقت وتلهي وزارتي المالية والعدل ومصرف لبنان بقشور السرية المصرفية بدلاً من معالجة النزيف القاتل فحسب، إنما بعدم إحراز أي تقدم في هذا الملف مهما كان بسيطاً”، يقول دياب. “مع العلم أنه من المستحيل عملياً بعد اتخاذ الحكومة القرار بالتدقيق في 26 آذار 2020 الإستمرار بالمراوحة مكاننا، والبقاء في النقطة صفر، مهما كانت الصعوبات والعراقيل”.
إستبيان موقف “الوزارة” و”الشركة” حق وطني
كسر لبنان رقماً قياسياً جديداً بتعطيل التدقيق الجنائي دفع بنقابة المحامين في بيروت إلى توجيه كتابين رسميين بتاريخ 26/3/2021 إلى كل من وزارة المالية وشركة Alvarez & Marsal، لمعرفة من يعرقل التدقيق الجنائي. وبحسب الدكتور دياب فان الهدف “ليس التدخل بالعمل الرسمي والحصول على معلومات لا يحق للنقابة بها، إنما الإستيضاح من وزارة المالية عن مجريات سير العملية، إستناداً إلى القانون رقم 28 تاريخ 10 شباط 2017 المتعلق بحق الوصول إلى المعلومات، ومعرفة موقف شركة Alvarez & Marsal لجهة استعدادها للمتابعة بالتدقيق من عدمه. وهذه أبسط حقوق المواطنين الذين يموّلون من خلال ضرائبهم أتعاب الشركة المتعاقد معها والبند الجزائي الذي سيترتب علينا في حال فض العقد”.
اللغم جاهز
في الوقت الذي يتخوف فيه الكثيرون من عدم كفاية المهلة الزمنية المتبقية من قانون رفع السرية المصرفية لإجراء التدقيق، يرى نصري دياب العكس. فالمهم بالتدقيق الجنائي، من وجهة نظره، “مسك رأس الخيط”، وسحبه بالكامل. فملاحقة الشركة والتوسع بالتدقيق في المؤسسات التي يَظهر وجود مخالفات ومشاكل أو تجاوزات في عملها… لا يتوقف مع إنتهاء مفعول القانون رقم 200/2020 نهاية هذا العام، حيث لا يعود هناك من حاجة إلى رفع السرية المصرفية. لذا من المهم من وجهة نظر نصري دياب “تأمين متطلبات التدقيق والمباشرة به فوراً”. لكن ما يقلق دياب هو تضمين القانون رقم 200/2020 عبارة التدقيق “بالتوازي”، بين مصرف لبنان وبقية مؤسسات وإدارات وصناديق الدولة. فعلى الرغم من إفتاء هيئة التشريع والإستشارات في وزارة العدل بأن التوازي لا يعني التزامن، وأنه ليس من الضروري أن يتم التدقيق في بقية الوزارات والمؤسسات العامة بالتزامن – (في الوقت نفسه) – مع إنطلاق التدقيق في مصرف لبنان، “يبقى هذا المصطلح بمثابة “لغم” من الممكن أن ينفجر في المستقبل في أي مرحلة من مراحل التدقيق”، برأي دياب. بأي حال، فانه “من الضروري التدقيق بحسابات الدولة بمختلف وزاراتها وإداراتها، إذ إن الهدر والإختلاس حصلا فيها وليس (فقط) في مصرف لبنان”.
الشق التقني لم يحل بعد
إضافة إلى التعقيدات التي تطغى على الشق القانوني من التدقيق، يطفو على السطح إلتباس تقني لا يقل أهمية. فمصرف لبنان على علم، منذ أيلول 2020 على أقل اعتبار، بالمستندات المطلوب تحضيرها وتقديمها. فلماذا طلب ثلاثة أسابيع إضافية أو أكثر لتجميع وتحضير مجموعة من المستندات المطلوبة منه. هذا من جهة، أما من جهة ثانية فيلفت أحد الخبراء إلى أن المطلوب من مصرف لبنان تسهيل عمل الشركة، وتأمين اطلاعها على كل تفاصيل حسابات مصرف لبنان، والسماح للمعنيين من الموظفين والمسؤولين بالإجابة عن الأسئلة. وهذا ما لا يتضمنه القانون 200/2020، ويتعارض مع المادة 151 من قانون النقد والتسليف التي تفرض “على كل شخص ينتمي او كان انتمى الى المصرف المركزي، بأية صفة كانت، أن يكتم السر المنشأ بقانون 3 ايلول سنة 1956. ويشمل هذا الموجب جميع المعلومات وجميع الوقائع التي تتعلق، ليس فقط بزبائن المصرف المركزي والمصارف والمؤسسات المالية، وإنما ايضاً بجميع المؤسسات المذكورة نفسها، والتي يكون اطلع عليها بانتمائه الى المصرف المركزي”.
وعليه فان إمكانية تذرّع “المركزي” بهذه المادة لعدم الإجابة عن أسئلة الشركة وتسهيل عملها، كبيرة جداً. كما أنه من المهم بالنسبة إلى شركة التدقيق الجنائي إقامة مكتب لها في “المركزي” وربطها بنظام المعلوماتية مباشرة “server”، لتسهيل عملية التدقيق وتقليل خطر نقل المعلومات إلى الخارج. وهذه خطوة من غير المؤكد موافقة مصرف لبنان عليها. خصوصاً أنه من المفروض ألا يكون هناك وسيط بين عمل الشركة والجهة المدقق فيها، حتى لو كان المركزي نفسه.
إقرار التدقيق الجنائي شكلياً، والإيحاء بتذليل العقبات من أمامه، يقابل بمسار طويل مزروع بمختلف العراقيل العملية، القانونية والتقنية. فكلما حلت عقدة تضاف تعقيدات جديدة. الأمر الذي بدأ “يطبش” كفة الميزان لمصلحة إفشال التدقيق بشكل نهائي.