في عزّ الأزمة الحكومية وما اصاب الوساطات الداخلية والمبادرات الخارجية من عقم، برزت في بعض الصالونات السياسية نظرية تقود الى اعتبار الفوضى المقدّرة، أنّها لن تكون كارثية على اهل السلطة. فهم يستدرجون اللبنانيين اليها يومياً، للاحتفاظ بمواقعهم وتثبيت الاعتراف بأكثريتهم، وصولاً الى مرحلة تطيير الانتخابات النيابية المقبلة، رغم التحذيرات الدولية والداخلية. وعليه ما الذي يؤدي الى هذا الإستنتاج ومخاطره؟
طالما ان ليس في الأفق ما يوحي بإمكان الوصول الى محطة تأليف الحكومة العتيدة، فإنّ الصالونات السياسية تحفل بالسيناريوهات السلبية التي تتحدث عن مجموعة المحاذير المقدّرة، نتيجة الفشل في إتمام المهمّة المطلوبة، وخصوصاً انّ الخلافات الشخصية بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلّف سعد الحريري قد تطورت الى ما لم يحتسبه احد. فهي احتلت وبلا استئذان، مكانتها على لائحة اولويات المخارج المطروحة، قبل الدخول الى مرحلة التأليف.
لا تحتاج هذه المعادلة الى كثير من الأدلة. فالحديث المتنامي في الايام الأخيرة عن مساعٍ فرنسية، بعد لبنانية، لجمع الرئيس المكلّف سعد الحريري مع رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، واحدة من أبرز الأفكار المطروحة. وان تحوّلت بعد المناقشات التي رافقتها فكرة يتيمة لم يتبناها أحد، فالسبب يكمن في انّها خطوة مستحيلة بالنسبة الى الحريري على الاقل، الذي كرّس بنهجه الأخير نظرية لم تعد تخضع لأي جدل تقول، انّه لا يمكن البحث في التشكيلة الجديدة من الأبواب الدستورية سوى مع رئيس الجمهورية، فهما الطرفان المكلّفان المهمّة. وإنّ اي محاولة للالتفاف على هذه القراءة الدستورية لن تنجح، وانّ اي لقاء محتمل بينهما او التشاور مع اي رئيس كتلة نيابية أخرى قد عبرت وانتهت بانتهاء الاستشارات النيابية غير الملزمة التي أجراها. وانّ ما تليها من خطوات مشابهة ليست مستعجلة، ولربما يمكن ان تحصل في اي وقت بعد التأليف واقلاع الحكومة في عملها وعلى القطعة. فالتجارب السابقة التي حكمت آلية العمل في الحكومتين السابقيتن اللتين ترأسهما الحريري ومنذ عودته الى السرايا وغداة انتفاضة 17 تشرين لن تتكرّر. ولذلك، فإن بقيت اي «مصالحة شخصية» افكاراً مطروحة على اي أجندة او مبادرة دولية او محلية فلن تشكّل منفذاً الى اي حلّ اياً كانت النتائج المترتبة على مثل هذه الخيارات.
وعليه، فإنّ مجموعة المقترحات المتداولة والتي تستظل المبادرة الفرنسية، لم ولن تصل في وقت قريب الى اي خيار قابل للتطبيق. فالتعقيدات التي ما زالت تتحكّم بالمخارج المطروحة لا تزال على صعوبتها، ولن تقدّم مجموعة الأفكار التي حملها وزير الخارجية المصرية سامح شكري في زيارته لبيروت امس أي جديد. فهوـ وبحسب القليل الذي تسرّب ـ سيكون مضطراً الى إعادة النظر في ما يحمله من افكار لتكون مادة حوار مع الجانب الفرنسي. وقد بات واضحاً انّ التناغم الفرنسي ـ المصري لم يتناول الملف اللبناني فحسب، وانّ هناك ملفات أخرى قيد البحث والتنسيق العملاني بين الطرفين، من دون إغفال الاطراف الاخرى الغربية والعربية والخليجية منها خصوصاً.
وإن تناول الحديث حجم الأزمة وما بلغه المأزق الحكومي، فهو لم ولن يتجاهل التداعيات السلبية المتوقعة نتيجة فشل الوساطات الجارية على اكثر من مستوى، وتنامي الأزمات المخيفة والمتناسلة التي بدأت تلقي بظلالها على حياة اللبنانيين اليومية. فمعظم المؤشرات الاقتصادية والسياسية والامنية تنحو الى مزيد من المصاعب التي ينتظرها اللبنانيون، من دون ان يحتسب اطراف النزاع من اهل البيت الحكومي المخاطر المقدّرة، قبل ان يتنازلوا جميعاً عن مطالبهم التعجيزية والتراجع الى الوراء بنحو متساوٍ توصّلاً الى قواسم مشتركة، تحيي الامل في امكان تشكيل الحكومة في اسرع وقت ممكن، ولتقوم بالمهمّة الإستثنائية المنتظرة منها.
عند هذه المعطيات الثابتة، لا تخفي اوساط المعارضة، ومعها اوساط ديبلوماسية عليمة، مخاوفها من اصرار اهل السلطة على استدراج اللبنانيين الى ما لا يريدونه. فهم ومن خلال الفشل في مواجهة أي من الأزمات التي نمت على هامش المأزق الحكومي، ومعها ترددات جائحة كورونا وتزامنها مع أسوأ ازمة نقدية ومالية يعيشها القطاع المصرفي، لم يغيّروا بعد من أساليب المعالجة وشكل المواجهة المفتوحة بينهم في آن. لا بل فهم يتمادون في تجاهل الانعكاسات السلبية للتطورات الاخيرة وما بلغته نسبة الفقر في لبنان، والتي يمكن ان تؤدي الى ارتفاع نسبة الجرائم المرتكبة وصولاً الى حال من الفلتان الامني الذي لم يعد مستبعداً، في ظلّ المواقف التي تذكّي الفتنة المذهبية في بعض المناطق الحساسة.
وعليه، ثمة بين القيادات المعارضة من يتوقع سعي عدد من اركان السلطة الى مثل هذه الفوضى لتحسين مواقعهم السلطوية، فبعض وسائل مواجهة الأزمة الاقتصادية ستتحول في رأي بعضهم مناسبة لتعزيز مواقع النفوذ، من خلال الإعتماد على بعض المبادرات التي لا يمكن ان تتجاهل وجودهم في السلطة، يمسكون بناصية القرار على مختلف المستويات، ولا يمكن أحد تجاهل وجودهم. فهم العلّة والسبب وفي الوقت عينه هم من سيديرون الدفة في اي تفاهم يمكن ان يتمّ التوصل اليه رغم صعوبة المهمّة. فلا حول ولا قوة لأحد ان يغيّر احداً منهم او يعزله، طالما انّهم في مواقع السلطة يتحكّمون بمفاصلها، وقادرون على تغيير كثير من المعطيات في اي وقت.
ولذلك، وبناءً على هذه المعادلة البسيطة، فهم يعون اهميتها وخطورة ان يحصل اي تغيير في اي وقت كان. وعليه، فإنّ البعض منهم يردّد بكل بساطة أنّه لن يكون هناك اي مخرج او حل في وجودهم، وانّ التهديد بالفوضى لا يزعجهم. وعليه ظهر احدهم وهو يتباهى من موقعه المتقدّم اليوم، بالفوضى المنتظرة التي يهدّدون بها، ويتمادى ليتهم الخارج بالتشجيع عليها ويضعها في اطار المواجهة المفتوحة بين محور الممانعة والحلف الدولي المناهض. وبكل هدوء لا يتردّد في التعبير عن اعتقاده في انّها ستقضي على آمال المعارضة المعقودة لإجراء الانتخابات النيابية مطلع السنة المقبلة. وانّ ذلك قد فرض عليها التحضير من اليوم لمشاريع التمديد والتجديد، والتي لربما لن تقف عند حدود التمديد للمجلس لتتمدّد الى مواقع أخرى.
وعليه، فإنّ هذه الاطراف التي ترصد مثل هذه التوجهات، تلفت نظر اصحابها، الى انّ التلاعب بالانتخابات النيابية المقبلة لا يُقاس بالتجارب التي اعتمدتها السلطة، لإنهاء الشغور في عشرة مواقع نيابية شغرت في اكثر من مناسبة، وكان يفترض ان تكون قد اجرتها منذ الخريف الماضي، ليحافظ المجلس النيابي على مواصفاته القانونية والدستورية، إن لجهة العدد في المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، والذي يجب توافره في اي استحقاق داهم، كالذي يقود الى انتخاب رئيس جديد للجمهورية، او مقاربة اي ملف من الملفات الوطنية الكبرى.
وعليه، لا تخفي المعارضة تحذيرها لكل من يعتقد انّه يمكن مقاربة الانتخابات النيابية العامة بظاهرة الاهمال التي رافقت الانتخابات الفرعية، وتجاهل المواعيد والمِهَل الدستورية التي اطيح بها جميعها. والأخطر، ان رأى فيها البعض فرصة للتخلّص من بعض «الاصوات النيابية المشاغبة»، مضافة الى ما يمكن ان تعكسه في نتائجها المقدّرة، لحجم المزاج الشعبي المتقلّب والمنقلب على احزاب السلطة. وهو ما يقود ايضاً الى التحذير من ردات الفعل الدولية التي لا يمكن ان تسمح بتجاوز هذا الاستحقاق.. ومن يعش يرَ.