البروفيسور جاسم عجاقة-الديار

السلطة بحاجة الى استعادة الثقة الدولية والمحلّية من خلال الإصلاحات

 

لم يكن الوضع السياسي والإجتماعي والإقتصادي والمالي والنقدي في لبنان يوماً بالسوء الذي هو عليه اليوم وذلك في كل تاريخ لبنان المُعاصر. التخبّط الذي يعصف بالمشهد السياسي يمنع إنعاش أي إجراءات تصحيحية لوقف النزيف الاقتصادي والإجتماعي الذي يُنذر بمجاعة كبيرة.

الكل يعلم أن فقدان لبنان مصداقيته أمام المُجتمع الدولي هو السبب الأساس في عدم تقديم الغرب المُساعدات المالية لمساعدته في الخروج من أزمته الاقتصادية والإجتماعية. وبالتالي تقتصر هذه المُساعدات على الإنسانية منها وذلك عملا بمبدأ التضامن الدولي الذي يُخيّم على علاقات الدول فيما بينها.

وربط الُمجتمع الدولي مُساعدة لبنان على الخروج من أزمته بتشكيل حكومة مهمة قادرة على القيام بإصلاحات جذرية وبتحييد لبنان عن الصراعات الإقليمية. إلا أنه وبعد أكثر من 7 أشهر على استقالة حكومة الرئيس حسان دياب، لم تنجح القوى السياسية في تشكيل حكومة تستوفي الشروط الدولية للحصول على مساعدات أصبح من شبه المُستحيل على لبنان الخروج من أزمته بدون هذه المُساعدات. وهنا يُطرح السؤال: ما هو سبب فقدان ثقة المُجتمع الدولة بالطبقة السياسية اللبنانية؟

 ​ماذا يقول العلم؟ 

المصداقية هي مفهوم يُعبّر عن مدى تقبّل رسالة من قبل شخص أو كيان، وتحوي على شقين، الأول شق موضوعي والثاني شخصي أو غير موضوعي. وتتمّ ترجمة المصداقية عمليًا من خلال الثقة الممنوحة لهذا الشخص أو الكيان المبنية أيضاً على معيار الخبرة والأهلية، وهي تتضمّن مقاييس موضوعية كالشهادات العلمية، وذاتية كالكاريزما. هذه المصداقية تمّت دراستها ونمذجتها من قبل الباحث «هابرماس» في إطار نظريته عن العمل التواصلي أو ما يُعرف بالـ communicative action وحدّد، في إطار مقسوم إلى مرحلتين، أربعة أبعاد لتمييز المصداقية: الحقيقة، الصدق، الملاءمة، والفهم.

يُمكن الحديث عن المصداقية في عِدّة مجالات كالمصداقية الصحافية، والأكاديمية، والعلمية، والطبّية، والسياسية، والمصداقية في الأعمال، والمصداقية في الشارع، إلى غير ذلك من الأمور الحرفية المتعلقة بالتواصل والتعاون الاجتماعي. إلا أن ​الأسواق المالية​ كانت أوّل من أعطّى ترجمة فعلية جامعة لمفهوم المصداقية في الحياة الإقتصادية حيث يرى اللاعبون الإقتصاديون أن المصداقية تُبنى على أساس التجربة الماضية والتي على أساسها يُمكن التعاطي مع الشخص أو الكيان. بمعنى آخر يقوم الشخص أو المؤسّسة بالتصريح عمّا سيقوم به، ومن ثمّ يقوم بتنفيذ ما وعد به، وعليه تُقاس المصداقية بمدى تطابق ما تمّ قوّله وما تمّ إنجازه.

 المصداقية في الحياة السياسية 

في ستينات القرن الماضي، أظهر خطاب الرئيس جونسون (1963-1969) حول سياسة الولايات المُتحدة الأميركية في حرب فيتنام تباينًا كبيرًا مع الواقع على الأرض. وبالتالي قامت صحيفة الهيرالد تريبون في العام 1965 باستخدام عبارة Credibility Gap أو «فجوة المصداقية» لوصف «أكاذيب الرئيس الأميركي بشأن السياسة المُتبعة في حرب فيتنام». وانتشر إستخدام هذه العبارة في الولايات الُمتحدة الأميركية ليُعبّر بها عن عدم الإقتناع بما يرويه ​السياسيون​ للجمهور ووضعه في خانة الأكاذيب. أما اليوم، فتُستخدم عبارة «فجوة المصداقية» لوصف الفجوة بين ما يقوله السياسيون وبين الوضع الفعلي.

من جهته يُعرّف الباحث «بينستر» رأس المال السياسي للزعيم(leader) بقوله إنه عبارة عن مجموعة من «المهارات»، و»العلاقات»، و»السُمعة» لهذا القائد. هذا التصور المفاهيمي لرأس المال السياسي للزعيم يشبه إلى حدٍ كبير سمات «الكفاءة»، «الثقة» و»الرعاية» التي يحتاج إليها السياسي لكيّ يتمتّع بالمصداقية. وبالتالي، تستلزم المصداقية أن يبني مُستلم الرسالة (البيئة التخويلية) حكماً حول مصداقية المتحدث.هذا الحكم هو مفهوم علائقي يُترك من خلاله للجمهور إعطاء أو حجب المصداقية عن القادة السياسيين. بتعبير أخر، يُمكن القول إن هناك تشابهًا كبيرًا بين رأس المال السياسي والمصداقية لدرجة يُمكن إعتبار المصداقية في المجال السياسي كرأس المال السياسي. هذا الأمر تمّ إثباته من قبل الباحث الهولندي فان زويدام في دراسة تعود للعام 2014، إذ استخدم نموذجا دراميا للتأطير (مُستخدم في عالم المسرح) بهدف دراسة مصداقية السياسيين في الإنتخابات البرلمانية الهولندية التي تمّت في العام 2010.

 ​المصداقية السياسة في لبنان من وجهة نظر المُجتمع الدولي 

يظهر من تقارير صندوق النقد الدولي، أن الصندوق ومنذ منتصف تسعينات القرن الماضي، ينصح الحكومات بالقيام بإصلاحات إقتصادية ومالية. وعلى هذا الأساس، كانت مؤتمرات باريس 1، 2 و3 ومؤتمر ستوكهولم ومؤتمر سيدر مبنية على مساعدات مشروطة للقيام بهذه الإصلاحات. إلا أن الحكومات المُتعاقبة ومنذ ​باريس​ 1 وحتى يومنا هذا، لم تلّتزم بما وعدت به المُجتمع الدولي. وبالتالي يرى المُجتمع الدولي أنه لا يُمكن تقديم مُساعدات للبنان إلا إذا قام بإصلاحات مطلوبة منه وربط أي مُساعدة بنتائج التفاوض مع صندوق النقد الدولي.

الكثير من العقبات منعت الحكومات المُتعاقبة من الإلتزام بوعودها تجاه المُجتمع الدولي في مؤتمرات باريس 1، 2، و3 ومؤتمر ستوكهولم ومؤتمر سيدر وعلى رأسها الأحداث الأمنية والتخبّط السياسي (إغتيال الرئيس رفيق الحريري، أحداث 7 أيار، التفجيرات في العام 2013 و2014، إحتلال الإرهابيين لسلسلة الجبال الشرقية، الفراغات الرئاسية، عدوان تموز 2006…). وفي كل مرّة كانت الحجّة الرئيسية المُعطاة من قبل القوى السياسية، الحفاظ على السلم الأهلي باعتبار أن أي خلل في التوازن القائم يؤدّي إلى ضرب السلم الأهلي (!).

عمليًا لم تُعطِ الدولة اللبنانية أي إشارة عن حسن نيتها وجديتها تجاه المُجتمع الدولي من خلال القيام بإصلاحات كان بمقدورها القيام بها من دون المسّ بالسلم الأهلي. فكيف يُمكن تبرير أن عدم إقرار موازنات خلال 12 عامًا (من العام 2005 حتى العام 2016) هو للحفاظ على السلم الأهلي؟ أو كيف يُمكن تبرير عدم إصلاح قطاع الكهرباء على أنه للحفاظ على السلم الأهلي؟

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد قامت حكومة الرئيس حسان دياب بضرب ما تبقى من مصداقية لبنان في الأسواق المالية من خلال وقف دفع سندات اليوروبوندز وهو أمر يجعل الرجوع إلى ما قبل هذا القرار الأجوف يتطلّب عشرات السنين لاستعادتها!

من هذا المُنطلق، يرى المُجتمع الدولي أن لبنان فقد مصداقيته السياسية وهو ما يفرض على القوى السياسية استعادتها من خلال تشكيل حكومة مهمة قادرة على القيام بإصلاحات ونأي لبنان بنفسه عن الصراعات الإقليمية. الجدير ذكره أن من حسن حظ اللبنانيين أن الاهتمام الدولي بلبنان نابع من عوامل ​جيو-سياسية وجيو-إقتصادية تجعل من الوضع في لبنان محطّ إهتمام المُجتمع الدولي.

المصداقية بين القول والفعل 

مما تقدّم، نرى أن استعادة مصداقية لبنان أمام المُجتمع الدولي تتطلّب تشكيل حكومة مهمّة قادرة على الإلتزام بتعهدات الحكومات السابقة في المؤتمرات الدولية والشروط المُستحدثة من قبل صندوق النقد الدولي. بَيد أن هذه المصداقية هي الشق المتعلق بالخارج وهي ليست الوحيدة، فهنُاك المصداقية الداخلية، أي مصداقية العدالة في الحكم تجاه الشعب المفقودة أيضاً وبالتالي، هناك إلزامية حتمية لاستعادة الثقة من خلال وضع مصلحة المواطن، أي مواطن، لا الطوائف على رأس سلم أولويات أي حكومة سترى النور.

عمليًا يتوجّب على الحكومة وضع لائحة التزامات مع خارطة طريق لتنفيذها على أن تعلنها مُسبقًا وتقوم بتطبيقها بحسب خارطة الطريق. هذه الإلتزامات تتضمّن:

أولا – مُعالجة مُشكلة الأمن الغذائي للمواطن وجعلها أولى الأولويات؛

ثانيًا – إيلاء الشق الاقتصادي مكانة مُهمّة في برنامج العمل والإنكباب على درس خططّ إقتصادية لإعادة هيكلة الماكينة الإقتصادية، لمحوّ ​الفقر​ أو للتخفيض قدر الإمكان من نسبته، والإرتقاء بالمجتمع اللبناني إلى درجات تُنافس المجتمعات الدولية. هذا الأمرُ هو أساس النظرية الإقتصادية القائلة بأن كل سياسة لا يكون محورها الإنسان، لا يُمكن أن ترتقي إلى مستوى تسميتها بالسياسة الاقتصادية؛

ثالثًا – معالجة مُشكلة الفساد السياسي والإداري، إذ يتوجّب على الحكومة وضع خطّة فعّالة لمكافحة الفساد في كل إدارات الدوّلة ومؤسساتها ووزاراتها مع رفع الغطاء عن الفاسدين أينما وُجدوا ولأي طائفة انتموا، وتعزيز سلطات الرقابة، ويبدأ ذلك كله من خلال ضمان إستقلالية القضاء.

في الختام لا يسعنا القول إلا أن لبنان، مع إهدار مسؤوليه الفرص المتعاقبة، لا تزال أمامه فرصة محدودة في الوقت وقد تكون الأخيرة، وعليه يتوجّب على الجميع العمل على الإستفادة منها نظرًا إلى أن المُجتمع الدولي إلى الآن لا يزال مُستعدا لمساعدته للخروج من الأزمة، وهذا يتطلّب الترفّع عن المناكفات السياسية والطائفية التي تضرّ بالكيان اللبناني.

لقد آن الأوان أن يصدق اللبناني، كل لبناني، في قرارة نفسه وصميم قلبه أنه من المستحيل قيام دولة مزدهرة قادرة يحتمي فيها أصحاب القرار خلف طوائفهم بدل أن تكون طوائفهم هي أول من تردعهم وتحاسبهم على تضييع الأمانة التي وضعت في أعناقهم.

حمى الله لبنان واللبنانيين