الطريق مسدود، لأن ليس في الأفق ما يؤشر الى امكانية إحداث اختراق في الجدار الحكومي، لتوليد حكومة من رحم المبادرة الفرنسية، ولأنّ المشكلة أبعد من لقاء بين نقيضين يستحيل ان يلتقيا لا طوعاً ولا بالإكراه، وأبعد من زيارة افتراضية، أضفت مزيداً من العبث على المشهد السياسي اللبناني. ولم يتضح حتى الآن من الداعي اليها، ولا حتى جدول أعمالها الذي روّج له انصار التيار البرتقالي بالحديث عن لقاءات فرنسية رفيعة المستوى لرئيسهم. وأما الترويج في مقلب الخصوم، فقزّمه الى حدّ لقاءات بينه وبين مسؤولين من الصف الثاني أو الثالث في الدوائر الباريسية. والمثير للسخرية في هذا السياق، انّ كلّ المروّجين بنوا ترويجهم على لا شيء.. وكلام فارغ؟!
الطريق مسدود، لأنّ جوهر المشكلة يكمن في حقيقة باتت معلومة بكل وضوح وصراحة في خفايا الحراكات والاتصالات الجارية حول ملف التأليف، وخلاصتها، انّ رئيساً يرفض رئيساً آخر، ويسعى الى ابعاده بأي وسيلة.. ونقطة على السطر. وتلك قناعة راسخة في البيئة السياسية وغير السياسية للرئيس المكلّف.
قد تحصل زيارة رئيس «التيار الوطني الحر» الى باريس وقد لا تحصل، هذا ما يقوله الفرنسيون، فإن حصلت في بعدها الشخصي، فهذا شأن خاص بجبران باسيل، واما إذا كان طابعها سياسياً، فهنا كلام آخر. فالفرنسيون ينظرون الى باسيل بوصفه «رئيس تيار الثلث المعطل»، ولا شك انّ إتمام الزيارة على المستوى السياسي يتطلّب ممهدات موضوعيّة يتلمّس من خلالها الفرنسيون مدى ايجابية باسيل في فك عقدة التعطيل، واستعداده لتجاوز العقبات المانعة لتشكيل الحكومة. وبناءً على ذلك، يبني الفرنسيون على الشيء مقتضاه، وينزلون بكل ثقلهم لعقد لقاء بينه وبين الحريري يرعاه الرئيس الفرنسي، لينتهي هذا اللقاء بتصاعد دخان باريسي أبيض، يعلن الولادة الميمونة للحكومة الاخيرة في عهد الرئيس ميشال عون.
في كل الأحوال، الدخان البيروتي اسود حكومياً، وكل الاطراف ممترسون في المربع صفر القائم حالياً على خط التأليف..
وعلى الخط الموازي، تبرز قراءة سياسية للموقف الفرنسي المتجدّد ربطاً بالمشهد اللبناني، تخلص الى اعتبار انّ الطريق مسدود أمام ماكرون، حيث لا يمكن فصل حراكه اللبناني المتجدّد عمّا يتردّد في الأروقة الديبلوماسية الغربية من وجود تحرّك ايجابي، ولو حذر، على خط التفاوض بين الولايات المتحدة وإيران، وهو ما يوفّر فرصة للرئيس الفرنسي لالتقاط لحظة فريدة، في محاولة لتحقيق إنجاز ما على الساحة اللبنانية، التي باتت، كما هو معلوم، الميدان الوحيد الذي يمكن أن تركن إليه فرنسا لموطئ نفوذ لها في شرق المتوسط.
بالنسبة الى الفرنسيين، بحسب القراءة السياسية، يمكن أن تؤدي الحلحلة على خط واشنطن- طهران الى فتح نوافذ معينة، لا سيما إذا صحّ ما يتردّد حول التسوية الاقليمية المقبلة، وتحديداً في البعد المتصل بتخفيف الضغوط الأميركية على لبنان – وبطبيعة الحال «حزب الله» – وهو مطلب لا يبدو أنّ ايران ستتنازل عنه، وقد تجد الولايات المتحدة نفسها مضطرة للقبول به، في حال أرادت إعادة إنتاج التعايش السلمي بينها وبين إيران وروسيا في الشرق الأوسط.
بهذا المعنى، على ما تلفت القراءة السياسية، يمكن أن يوفّر تخفيف الضغوط الاميركية هوامش معينة لفرنسا لكي تتحرّك في لبنان، خصوصاً أنّ مبادرة ماكرون، وبعيداً من صبيانية الطبقة الحاكمة في لبنان، تكبلت أساساً بالألغام الأميركية، التي تبدّت قبل أشهر بسلسلة القرارات المتصلة بالعقوبات على «حزب الله» وحلفائه.
وتضيف، انّ ما يعزز الفرصة الفرنسية، هو أنّ تحييد العامل الأميركي – ولو جزئياً – قد يجعل تسوية الأزمة السياسية في لبنان، وفق ما يعتقد صنّاع القرار في باريس، أكثر قابلية للتحقيق، خصوصاً أنّ امكانية التفاهم الايراني-الفرنسي تصبح أسهل في مثل هذه الحالة.
وتلحظ القراءة السياسية، أنّ المسعى الفرنسي يبقى مفتقداً الى ارضية صلبة للتحرك، أخذاً في الحسبان أنّ أية تسوية أميركية – ايرانية لن تحصل بين ليلة وضحاها، ناهيك عن أنّ الرمال المتحركة اللبنانية باتت أكبر من أن تستوعبها أية تسويات اقليمية، في ظلّ حالة اللامنطق السائدة في اللعبة السياسية، الى جانب العامل الاقتصادي الذي بات يشكّل عنصراً مستقلاً في المعادلة، منذ اللحظة التي دخل لبنان فيها مرحلة الانهيار.
وتلفت، الى انّه في مطلق الأحوال، يبالغ بعض اللبنانيين – وربما بعض الفرنسيين – في تحديد سقف توقعات للحراك الفرنسي، وذلك بالنظر إلى عاملين اساسيين:
الأول، هو أنّ التفاهمات الاقليمية قد لا تحدث أصلاً، خصوصاً أنّ قرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي، يجعل أية تسوية جديدة مرهونة بقواعد جديدة، ستخضع لكباش صعب في سياق تفاوضي معقّد.
الثاني، هو عامل لبناني بحت، يتمثل خصوصاً في أنّ التناقضات بين المكونات السياسية قد بلغت مرحلة خطيرة، تجعل أي توافق صعب المنال، حتى وإن تجاوز الفرنسيون عِقَد تشكيل الحكومة، وذلك بعدما أظهرت التجربة السابقة أنّ مرحلة التعايش بين تلك المكونات باتت مستحيلة.
هذه الاستحالة لا تُنسف إلّا من خلال عملية طويلة لاستعادة الثقة على مستويين، أولهما داخل الطبقة الحاكمة نفسها، وهو ما قد يحتاج الى عقد سياسي جديد يعيد تحديد الصلاحيات داخل السلطة التنفيذية (رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة) وبين السلطة التنفيذية والتشريعية، على النحو الذي يجنّب البلاد الدوران في متاهات من قبيل «الثلث المعطل» و»حصة الرئيس» و»حكومة 18» و»حكومة 24»… الى آخر تلك العبارات العبثية التي دخلت القاموس السياسي اللبناني؛ وأما ثانيهما، وهو الأهم، فعلى مستوى العلاقة بين المنظومة الحاكمة ككل وبين الشعب اللبناني، الذي لا يمكن لاثنين أن يجادل في كونه الضحية الوحيدة في لعبة المصالح الداخلية والخارجية.
وتخلص القراءة السياسية، الى انّ هذه المعادلة تشكّل المدخل الوحيد لحل الأزمة القائمة حالياً، وتجنّب الأزمات اللاحقة، التي بات كل منها «كلاكيت رقم كذا» لسابقاتها. ومع ذلك، فإنّ الحديث عن هذه الحلول بات أشبه اليوم بـ«اليوتوبيا» أو شكلاً من أشكال «الخيال العلمي» اللبناني، اخذاً في الحسبان انحدار الحياة السياسية في لبنان الى مرحلة يمكن توصيفها بـ»عصر الإنحطاط»، على النحو الذي تبدّى خلال الأسابيع القليلة الماضية، والذي بلغ ذروته في حرب الرسائل والبيانات والجداول على خط بعبدا – بيت الوسط … كل ذلك، يجعل لبنان حتى هذه اللحظة، بعيداً عن الخروج من النفق الحكومي المظلم، وهو ما يعني بعبارة اخرى، أنّ المبادرة الفرنسية لن تتأخّر لتصبح مجرد كلمة فضفاضة تُستهلك مرة تلو الأخرى في البازار السياسي اللبناني.