لا يقتنع الفريق الرئاسي أن سقوط التسوية التي أتت بالعماد ميشال عون إلى الرئاسة، يعني سقوط مفاعيل تلك التسوية التي تعاطى رجال العهد على أنها تعطيه الصلاحية المطلقة في شؤون الحكم وشجونه، وتطلق يده في السلطة وتتيح له السيطرة على مفاصلها، وتشكل فرصة لرجالاته ليغنموا من “خيرات” الديون الطائلة التي تشاركوا في استغلالها مع بعض فرقاء تلك التسوية.
ولا يقتنع الفريق الرئاسي أن سقوط مفاعيل التسوية لا يتوقف فقط على خروج زعيم تيار “المستقبل” سعد الحريري منها بعدما تحمل مسؤولية ووزر المشاركة فيها وصولاً إلى فشل حكومتين ترأسهما تحت كنفها، بسبب تقاسمه السلطة وبعض منافعها مع ركنيها الآخرين، “حزب الله” و”التيار الوطني الحر”. كما أنه لا يتوقف فقط على خروج حزب “القوات اللبنانية” منها. هناك عامل آخر أكثر أهمية من خروج الحريري، قد يكون العامل الحاسم الذي دفع الفريقين إلى الخروج من كنف هذه التسوية، هو الانهيار الذي انساق إليه البلد بإفلاس ماليته، وانتفاض اللبنانيين ضد ما سببه لهم الانقضاض على أسس معيشتهم ومدخراتهم وحتى على بديهيات ممارسة الحكم فيه مع كل عورات نظامهم السياسي وثغراته. وهنا مكمن الإنكار عند الفريق الرئاسي الحاكم، للمأساة التي تسبب بها أداؤه في إدارة الاقتصاد، والمالية العامة، ورغبته بالهيمنة على الإدارة، فضلاً عن أضرار خياراته الإقليمية على علاقات البلد الخارجية، والتي أغرقته بعزلة عربية غير مسبوقة على مرّ التاريخ. والممارسات المدعومة من “حزب الله” أفقدت السلطة الحد الأدنى من التوازن بين المكونات الطائفية والسياسية.
وإذا كان سقوط التسوية الرئاسية لا يعني سقوط الرئيس، فإن ما يعجز عن استيعابه الفريق الرئاسي هو أن التسوية الجديدة التي يفترض أن يجسدها تأليف حكومة الاختصاصيين غير الحزبيين، هي العودة عن الهيمنة التي كسرت التوازن السياسي والتي يعتبرها هذا الفريق مكتسبات وحقوقاً حصل عليها بالقضم وضغوط التعطيل، إلى توزيع الصلاحيات وفق اتفاق الطائف. والتسوية الحكومية هذه هي المقصودة على الأرجح من قبل رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط ورئيس البرلمان نبيه بري.
فأركان هذا الفريق لا يخفون رغبتهم في التخلي عن الطائف، وأن هدفهم استعادة صلاحيات الرئاسة الأولى وفق دستور ما قبل اتفاق الميثاق الوطني، حين يحدثهم بعض أصحاب المساعي بالمخارج الإنقاذية الملحة التي توجب التسوية على الحكومة. ومع أن الفريق الرئاسي يستخدم دستور الطائف حجة للمطالبة بالثلث المعطل، كما أبلغ رئيس “التيار الوطني الحر” جهات عدة، ولتبرير حق الرئيس بتسمية الوزراء المسيحيين، فإن دعوة النائب جبران باسيل إلى تغيير النظام والقول إنه لم يعد صالحاً هو تمهيد للانتقال إلى نظام رئاسي، يخشى العديد من القادة المسيحيين في مقدمهم البطريرك الماروني بشارة الراعي، من أن يفتح الباب على خسارة الرئاسة الأولى إذا اقترن هذا التغيير مع المطالبة بإلغاء طائفية الرئاسات.
يقنع الفريق الرئاسي نفسه بأنه لو كان لدى الرئاسة صلاحيات أكثر مما هي عليه اليوم، لكان الرئيس عون استطاع إنقاذ البلد من أزمته الراهنة، بينما الشكوى هي من أن حصوله بالممارسة على أكثر من صلاحياته، أفقد البلد مناعته. ومن يعرف تفاصيل التعددية اللبنانية والفسيفساء الطائفية، يعتبر أن هذا التوجه يضع لبنان أمام مخاطر راهنة ومستقبلية، ويعبر عن نزعة ديكتاتورية يرصد الخارج بدقة الجنوح نحوها.