واشنطن إذ تحاور الجولاني والحوثي..ونصرالله
ساطع نور الدين|المدن
في الجدل الذي دار مؤخراً حول مقابلة زعيم “جبهة تحرير الشام”(النصرة سابقاً) محمد الجولاني، مع وسيلة إعلامية أميركية، سها عن بال الكثيرين من الاشقاء السوريين، التركيز على حقيقة ان الأهم من ظهور الرجل في الاعلام الاميركي، هو الإنقلاب الجوهري الذي تشهده أميركا في موقفها من مثل هذه التنظيمات الارهابية، وإستعدادها للتعامل معها، بل وحتى إعتبارها “وديعة مهمة”، حسب تعبير المبعوث الاميركي السابق الخاص بسوريا جيمس جيفري، أخيراً.
سلط الاشقاء السوريون الكثير من الاضواء على صورة الجولاني المستحدثة، والمزيفة، والبراءة من تنظيم القاعدة التي سعى الى نيلها، واللغة السياسية المصطنعة التي إستخدمها في حواره مع الصحافي الاميركي مارتن سميث، وأراد من خلالها توجيه رسالة مباشرة الى الرأي العام الاميركي، بأن تنظيمه الذي لم يتورط في العمل العسكري او الامني خارج سوريا، ليس على عداء من أي نوع (سياسي أو عقائدي) مع اميركا، وهو جاهز للتفاوض والتفاهم معها على المستقبل السوري.
لم تثر المقابلة، على ما ظهر حتى الآن، أي إحتجاج أو إستغراب داخل الولايات المتحدة، كما جرت العادة في أي خطوة اعلامية مشابهة تجاه تنظيم اسلامي لا يشك أحد بهويته. حتى اليمين الاميركي المتطرف، بزعيمه المتوّج الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي يبحث بدأب عما يمكن ان يدين أو يحرج إدارة الرئيس الحالي جو بايدن، أحجم عن إلتقاط تلك الفرصة الذهبية.. ربما لأن سوريا ليست من أولويات أحد في أميركا، ولا يمكن ان تشكل عنصر تجاذب فعال بين الحزبين الاميركيين.
والحال أن بعض مسؤولي إدارة بايدن، لا سيما الحريصين منهم على “إستعادة” ما يعتبرونه هوية أميركا ودورها العالمي الانساني والاخلاقي، بل وحتى التبشيري، بعد أربع سنوات من الخرق الفاضح من قبل ترامب وفريقه للكثير من “القيم” الاميركية التقليدية في السياسة الخارجية، ما عادوا يخفون ميلهم للذهاب الى أقصى الحدود، والجلوس حول طاولة واحدة مع أشد أعداء أميركا (الاسلاميين) وخصومها المفترضين، تحت حجة الواقعية السياسية، ومن أجل تحقيق هدفٍ سامٍ، مثل انهاء حرب هنا وتحقيق تسوية هناك..بغض النظر عن الشروط السياسية البديهية لذلك، كما بينت التجربة اليمنية في الاسابيع القليلة الماضية.
على هذا الاساس، سقط التحريم الاميركي عن محاورة الجولاني، وتحول الرجل المنبوذ من جميع فصائل المعارضة السورية الى قطب سياسي معارض، ينبغي الاعتراف به ومناقشته حول الدور الذي يستحقه او ينشده في سوريا الجديدة..من دون التدقيق في هوية “جبهة تحرير الشام” وبرنامجها السياسي والاجتماعي الذي ترفضه الغالبية الساحقة من السوريين في مناطق نفوذها في شمالي سوريا، وتتظاهر ضده بشكل يومي تقريباً.
وعلى هذا الاساس أيضاً، ومن أجل تحقيق الهدف النبيل بوقف حرب اليمن الدامية ذات الاكلاف الانسانية والاخلاقية الباهظة، رُفع التحريم الاميركي عن الجماعة الحوثية، بناء على حقيقة أنها تسيطر حسب التقديرات الاميركية على نحو ثمانين بالمئة من الشعب اليمني، وبناء على إستحالة تغيير جدول الاعمال السياسي والاجتماعي المتشدد لتلك الجماعة، بالقوة العسكرية، وبناء على معطيات العلاقة الاميركية المضطربة مع السعودية ، والواعدة مع إيران..
هذا الوجه الاخر لاميركا، لا يقتصر على سوريا واليمن. في العراق، كما في لبنان، ثمة مؤشرات على أن البراغماتية الاميركية تستعد لاقناع السلطة العراقية باحتواء أشد القوى السياسية والمذهبية تطرفاً، كما تغض الطرف عن فكرة الحظر التي فرضتها على “حزب الله”، ومشاركته المقررة في الحكومات اللبنانية المقبلة، متخلية بذلك عن شرط إلزامي سابق كانت إدارة ترامب قد حددته طوال السنوات الاربع الماضية..وهو ما يفسح مجال التكهنات بحتمية الحوار الاميركي مع الحزب، إذا ما نجح التفاوض بين واشنطن وطهران.
هل هي تنازلات أميركية، أو تعديلات جوهرية على سياسات خائبة إعتمدها ترامب؟ أم هي مجرد واقعية سياسية تستعيدها واشنطن، وتروج لها بأسلوب التبشير الانساني والاخلاقي، الذي يعتمده اليوم كبار مسؤولي ادارة بايدن، بطريقة غير مقنعة، لا سيما عندما يقارن أحدهم بين أطفاله وبين أطفال سوريا واليمن، ويكاد يذرف الدمع تأثراً، في مقابلة تلفزونية بثت قبل أيام.
لم تكن أميركا يوماً، جمهورية فاضلة، ولن تكون..حتى ولو بكى زعماؤها ليل نهار على جميع أطفال العالم الثالث وعذاباتهم.