البروفيسور جاسم عجاقة-الديار
إنعاشاً للذاكرة الاقتصادية نستذكر أصل أو السبب الأساسي للأوضاع المتردية الحالية التي نعيشها والتي أفرزت ـ ولا تزال – كمّا هائلا من المشاكل على جميع الأصعدة في لبنان ألا وهي مُشكلة الدين العام اللبناني. فهو سيبقى عقبة أساسية أمام تخطّي الواقع الاقتصادي والمالي والنقدي الذي يُواجهه لبنان. فهذا الدين الذي بلغ 96 مليار دولار أميركي (على أساس دولار 1507.5) لا يُمكن التنصّل منه خصوصًا أن ما يُقارب 15 مليار دولار أميركي منها خارجي والباقي هي ديون داخلية مصدرها الأساسي ودائع المودعين. من هذا المنطلق، هناك علامات إستفهام كبيرة حول أي خطّة سيتمّ وضعها لإعادة هيكلة الدين العام.
يتراكم الدين العام نتيجة عجز الموازنات الذي هو نتاج السياسات المالية التي تتبعها الحكومات. ولبنان الذي يعيش تحت عجز مُزمن منذ نهاية الحرب الأهلية بمعّدّل 3.2 مليار دولار أميركي سنويًا (على أساس دولار 1507.5). أي أنه ومنذ العام 1993، بلغ العجز التراكمي ما يُقارب الـ 90 مليار دولار أميركي. إن عملية التراكم هذه كانت تتمّ من خلال الإقتراض المفرط للأموال إن بالليرة اللبنانية (من خلال إصدار سندات خزينة + تسهيلات من مصرف لبنان)، أو بالدولار الأميركي (عبر سندات اليوروبوندز + تسهيلات من مصرف لبنان).
وبالنظر إلى هيكلية الدين العام نرى أنه ذو شقين، داخلي وخارجي، بالليرة اللبنانية وبالدولار الأميركي. إن مبلغ المستحقات الخارجية بالدولار الأميركي هو 11.8 مليار دولار أميركي (+ بضعة مليارات من ديون مؤتمرات باريس) وصفر بالليرة اللبنانية، في حين أن المستحقات الداخلية هي 36 مليار دولار أميركي بالعملة الصعبة و80.6 تريليون ليرة بالعملة الوطنية.
إذًا ومما تقدّم، نرى أن القسم الأكبر من هذا الدين هو داخلي وبالتالي هناك إلزامية مُعالجة الديون بشكل يضمن مصلحة المواطن اللبناني بحكم أن المورد الأساسي هو الودائع. ومن ناحية ثانية، فمُشكلة الخطّة الحكومية أنها قامت على محو قسم كبير من الدين العام بشكل لا يُراعي مصلحة المودع والأصول المالية. فقد حسمت كليًا الدين العام لمصرف لبنان بالليرة اللبنانية وهو بالتالي ضريبة غير مرئية على الشعب اللبناني من خلال عملية الـ «Seigniorage» وهو ما يُشكّل مخالفة لمبدأ الديموقراطية الذي ينصّ على أن أي ضريبة يجب أن تكون مرئية.
وكانت الحكومة قد إقترحت في خطّتها مصادرة رأسمال المصارف وهو ما يضّرب الودائع بشكل مباشر بحكم أن معايير بازل تفرض تجميد نسبة من رأس مال المصرف بحسب كل نشاط يقوم به المصرف. لذا، فإن رأس المال هذا هو لحماية الودائع ولا يُمكن المسّ به قبل إعادة الودائع إلى أصحابها.
بالرجوع إلى الوراء أصبح الجميع الآن يدرك يقينا، بمن
فيهم أصحاب رأي عدم الدفع، أن إعلان وقف دفع سندات اليوروبوندز في 7 أذار من العام الماضي، عزل لبنان عن الأسواق العالمية نظرًا إلى أن عملية التعثّر تُشكل عائقًا أمام إصدار أي سندات يوروبوندز جديدة. عمليًا المبلغ الذي كان مطلوب دفعه كان بحدود الـ 1,2 مليار دولار أميركي في 9 أذار 2020 وما يوازيه خلال الأشهر الباقية من العام. وكان الأجدى بالحكومة دفع المُستحقات الخارجية وإعادة إصدار سندات أخرى للمستحقات الداخلية، إلا أن الظاهر أن الحكومة كانت من ناحية عاجزة عن رؤية المصلحة طويلة الأمد للوضع اللبناني من جهة، ومن جهة أخرى كانت تحت تأثير رأي عام يدفع بإتجاه عدم دفع سندات اليوروبوندز ولم يعلم هذا الرأي العام أن ودائعه بالعملة الصعبة ستتأثر حكمًا نظرًا إلى أن قسمًا من الدين العام يأتي من هذه الودائع. هذا الأمر من الماضي، ولكن يجب الآن النظر إلى الحاضر والسعي إلى إصلاح ما يمكن إصلاحه.
فالإشكالية الأكبر الآن تتعلّق بسعر الصرف نظرًا إلى أن الدين مقسوم إلى قسمين أحدهما بالدولار الأميركي والآخر بالليرة اللبنانية. هذا الأمر يجعل من إستراتيجية الحكومة تجاه سعر الصرف عنصراً أساسياً في عملية إعادة هيكلة الدين العام. والظاهر أن خطّة الحكومة تعمّدت خفض سعر الصرف إلى 4000 ليرة مُقابل الدولار الأميركي بدلا من 1500 ليرة مُعتقدة أن بإمكانها السيطرة على هذا السعر بعد إعلان وقف دفع سندات اليوروبوندز (ولو تكلفوا مراجعة التاريخ الاقتصادي للأزمات لعلموا أن هذا الأمر غير صحيح) بهدف خفض عجز الميزان التجاري عبر خفض القدرة الشرائية للمواطن ولكن أيضًا خفض الدين العام من خلال التضخمّ! هذه النقطة الأخيرة هي الأخطر في الأمر، وفيما يلي تفصيل ما ذكر.
الدين العام هو مجموع الأموال التي تقوم الحكومات بإقتراضها بإسم شعوبها ويتمّ سد هذه الأموال من الضرائب لتصحّ المقولة في الاقتصاد «دين اليوم هو ضرائب الغدّ». عمليًا، تمتلك الحكومات عدّة وسائل للإقتراض ولعل أوّلها إصدار سندات خزينة والتي تفرض فوائد تُسمّى بخدمة الدين العام. والأسباب التي تدفع الحكومات إلى الإقتراض عديدة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
أولا – تواجد خلل زمني بين مداخيل الخزينة والمستحقات المتوجبة (أجور الموظفين في القطاع العام مثلا). لذا تعمد الحكومة إلى الإقتراض لفترة قصيرة لحين وصول أموال المداخيل إلى حسابات الدولة.
ثانيا ـ رغبة الحكومة في تنفيذ مشروع إستثماري منصوص عليه في قانون الموازنة وهو ما يعني أن سدّ الدين يتمّ من خلال عائدات المشروع (سواء مباشرة أو غير مباشرة).
ثالثا ـ رغبة الحكومة بإستخدام الدين كرافعة لزيادة المداخيل وهو ما يتطلّب تقنيات مالية عالية ولكن أيضًا سلوكًا ثابتًا من ناحية الإنفاق العام الجاري.
رابعًا ـ حدث غير مُتوقّع على مثال عدوان تمّوز 2006 أو وباء كورونا وهو ما يقلّل من المداخيل مما يدفع الحكومة إلى الإقتراض لمواجهة الإستحقاقات.
خامسا ـ سوء تطبيق الموازنة وهو ما يؤدّي حكما إلى عجز آخر العام يتوجّب تغطيته من خلال مداخيل لا يُمكن تأمينها إلا من خلال الإقتراض.
الواقع اللبناني الذي يُهيمن عليه التخبّط السياسي، والحروب، وغياب الخطط الإقتصادية، والفساد، وإستخدام القاعدة الإثني عشرية للصرف مع الإنفاق من خارج الموازنة، جعل العجز – وبالتالي الدين العام – يتراكم بشكل كبير. والأصعب أن الحكومات المُتعاقبة بدأت بالإقتراض بالعملة الصعبة.
لقد كانت السيطرة على الدين العام مُمكنة من خلال القيام بعدّة خطوات لم تقم الحكومات بأيٍ منها: كتحفيز النمو لزيادة المداخيل، وزيادة الضرائب، وإعتماد خطط تقشفية، ودفع التضخّم إلى مستويات أعلى. إلا أن هذه النقطة الأخيرة أصبحت الآن المُشكلة التي تواجه إستحقاقات الدين العام في لبنان اليوم!
في دراسة لـ «رينهارت» في العام 2010 (Growth in a Time of Debt)، أثبت الكاتب أن هناك علاقة بين النمو، والدين العام والتضخم في الولايات المُتحدة الأميركية وذلك على الفترة المُمتدّة من العام 1970 ولغاية العام 2010. وتُشير الدراسة إلى أن التضخّم يلعب دورا تنظيميا في أوقات الأزمات ويسمح بإعادة التوازن المالي (في حال فُقد!). ويقول بعض الإقتصاديين الأميركيين أن تضخماً بنسبة 5 الى 6% يسمح للولايات المُتحدة الأميركية بتخفيف وزن دينها العام. وبما أن القسم الكبير من الاستثمارات في الولايات المُتحدة الأميركية يعود للأجانب من خلال الأسواق المالية (بورصة نيويورك تحوي على 60% من الإستثمارات العالمية في أسواق الأسهم)، فان خفض معدل الفائدة الحقيقية لن يكون له تأثير على الأميركيين وسيسمح بخفض الدين العام الأميركي. هذا الخفض في معدل الفائدة الحقيقية يعني خفض الفائدة المدفوعة للمستثمرين الذين هم في أغلبيتهم أجانب. كما تنبغي الاشارة الى أن التضخم لا يقضي على الدين العام إنما تسارع التضخم هو الذي يقضي على الدين (يجب خلق تضخم يفوق توقعات المُستثمرين).
إلا أن هذا الأمر وعلى الرغم من صحّته، لا ينطبق على لبنان ويعود السبب إلى أن الولايات المُتحدة تقترض بالدولار الأميركي الذي هو عملتها في حين أن لبنان يقترض بالليرة اللبنانية وبالدولار الأميركي (وهذا الأخير هو عملة الولايات المُتحدة الأميركية). أضف إلى ذلك أن المقرضين الأساسين للدولة اللبنانية هم البنوك اللبنانية ومصرف لبنان وبالتالي فإن الخسارة الكبرى التي ستأتي من التضخم ستضرب المواطن اللبناني بالدرجة الأولى. أيضاً وفي تحليل بسيط، يُمكن الإستنتاج أن إعتماد (تسارع) التضخم كحل لخفض الدين العام، يُجبر الأجيال القادمة على قبول نسب تضخم عالية أو إعادة إظهار الدين العام في محاولتهم لتثبيت الأسعار.
عمليًا، قمنا بمحاكاة لمعرفة مصير الدين العام في سيناريوهات عدّة لسعر صرف الليرة اللبنانية مُقابل الدولار الأميركي وتوصّلنا إلى نتيجة أن الدين العام يرتفع بشكل كبير مع ارتفاع سعر صرف الدولار وإذا ما كان سدّ هذا الدين هو من مداخيل بالليرة اللبنانية، بحيث أن الدين العام بالليرة على أساس سعر صرف 1500 ليرة للدولار يبلغ 157 تريليون ليرة مقابل مبلغ يقدر بـ 850 تريليون في حال وصل الدولار إلى 15 ألف ليرة.
أمّا إذا كان سدّ هذا الدين، سيكون بالدولار الأميركي، فإن العملية مُربحة بحيث أن الدين العام ينخفض من 105 مليار دولار أميركي على سعر صرف 1500 إلى 57 مليار دولار أميركي على سعر صرف 15000 ليرة. وبالتالي يُطرح السؤال: هل أن فقدان الليرة لقيمتها هو أمر مقصود بهدف خفض الدين العام؟ ومن أين ستأتي الدولة بالعملة الصعبة؟
يخطر على بالنا مُباشرة الثروة النفطية والتي كّنا قدّرناها (في مقال في جريدة الديار) بأسوأ الأحوال بأكثر من 200 مليار دولار أميركي (مداخيل صافية للدولة). إلا أن المُشكلة أن التعويل على الثروة النفطية في ظل مواجهة كبيرة مع المُجتمع الدولي يدفعنا إلى التأكيد أن الرهان خاسر! ففنزويلا بلد نفطي وعلى الرغم من ذلك هناك عقوبات قاسية على هذه الدولة وشعبها يعيش في ظروف صعبة وعملتها في الحضيض.
لكن ماذا إذا تأخر تشكيل الحكومة وتمّ رفع دعاوى قضائية ضدّها في الولايات المُتحدة الأميركية؟ نظريا ستقوم المحكمة الأميركية بحجز أصول الدولة اللبنانية في الخارج وهو ما سيؤدّي إلى زيادة الوضع سوءا! إلا أن هذا الحجز لن يطال أصول مصرف لبنان عملا بالفقرة الثانية من القسم 1611 من قانون الحصانات السيادية الأجنبية للولايات المتحدة التي تنصّ على أن «الممتلكات (المحتفظ بها لحسابها الخاص) لبنك مركزي أو سلطة نقدية أجنبية تتمتع بالحصانة من الحجز والتنفيذ، ما لم يتم التنازل عن الحصانة بشكل صريح». وهذا ما حصل فعلا في العام 2011، حيث قضت الدائرة الثانية في محكمة الاستئناف الأميركية، بأن أصول البنك المركزي الأرجنتيني المحتفظ بها في بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك محصنة من الحجز والتنفيذ.
على صعيد آخر، وقّع لبنان مع العراق إتفاقيات تعاون كان أولها تبادل النفط الخام مُقابل تقديم خدمات طبية. هذا الاتفاق الذي يُشكّل دعمًا كبيرًا للبنان يبقى رهينة آلية النقل والتنفيذ إذ قد يشكل قانون قيصر عائقًا أساسيًا أمام تطبيقه إذا ما تمّ إعتماد النقل البرّي والمرور عبر سوريا، إلا إذا حصل لبنان من خلل قنواته الدبلوماسية على استثناء في هذا المجال.
هنا يتبادر إلى ذهن أي اقتصادي، أمام هذه الصورة القاتمة المتشابكة من هو المخول لفك هذا الشباك، وكيف، ومتى؟
سؤال بات يقلق مستقبل البلاد والعباد.