سميح صعب-180Post
رتب اتفاق الشراكة الإستراتيجية بين الصين وإيران، تغييراً في بعض موازين القوى بالشرق الأوسط وعزز موقع بكين في التنافس الدولي الحاد مع الولايات المتحدة، ولم تعد طهران في عجلة من أمرها لإحياء الإتفاق النووي، وباتت الكرة في الملعب الأميركي.
بعد خمسة أيام من حوار ألاسكا الفاشل بين الصين والولايات المتحدة، زار وزير الخارجية الصيني وانغ يي طهران ليوقع إتفاق الشراكة الذي كان تقرر مبدئياً خلال زيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ للعاصمة الإيرانية عام 2016. الخطوط العريضة للاتفاق تنص على إستثمارات صينية في إيران بقيمة 400 مليار دولار في مختلف الحقول الإقتصادية من المرافىء إلى النفط وعلى تعاون عسكري بين الجانبين، بينما تزوّد طهران الصين بالنفط بأسعار تفضيلية لمدة 25 عاماً.
ولعل النقطة الأكثر إزعاجاً للولايات المتحدة في الإتفاق هي بند ينص على إنشاء بنك صيني – إيراني يعتمد اليوان (العملة الوطنية للصين) في تعاملاته وليس الدولار الأميركي.. وإذا ما قيض لهذا البنك أن يبصر النور، فإنه سيكون أول تهديد لهيمنة الدولار على عالم التجارة الدولية.
يبدو إتفاق الشراكة وكأنه نقطة لمصلحة الصين في الصراع العالمي الأوسع مع الولايات المتحدة، سواء من الناحية الإقتصادية أو من ناحية تعزيز النفوذ، الذي يتراوح بين “الحزام والطريق” واللقاحات ضد كورونا.
الرئيس الأميركي جو بايدن “القلق” من الإتفاق الصيني – الإيراني، تبنى أيضاً خطة خفض الوجود العسكري الأميركي في الخليج والشرق الأوسط عموماً لنقل المزيد من القوات إلى المحيط الهادىء لإحتواء النفوذ الصيني، فإذا بالصين تسجل “تغلغلاً” جديداً في الشرق الاوسط نفسه، وفق تعبير صحيفة “النيويورك تايمز”.
فهل أخطأ بايدن، بعدم المسارعة إلى العودة إلى الإتفاق النووي ورفع العقوبات الأميركية عن إيران، مما حمل النظام في طهران في نهاية المطاف، وبعد تردد دام خمسة أعوام على إبرام الإتفاق، بعدما شعر المسؤولون الإيرانيون، بأن الرئيس الأميركي الجديد لن يخاطر بإثارة غضب فئة واسعة من الديموقرطيين وكذلك الجمهوريين في الكونغرس ورئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، في حال أقدم على العودة إلى الإتفاق النووي بلا شروط؟ وهل هذا خطأ إستراتيجي آخر ترتكبه إدارة أخرى في البيت الأبيض ويصب في مصلحة إيران؟
مجلة “ذا ناشيونال إنترست” الأميركية، تحدثت قبل أيام عن “عيب في التفكير الإستراتيجي” الأميركي قاد جورج دبليو بوش إلى غزو العراق عام 2003، مما أدى إلى توسع غير مسبوق في النفوذ الإيراني بالمنطقة، وأن كل الأحداث التي تتالت بعد ذلك، نابعة من هذا “العيب”. لكن هذا نقد ذاتي فات أوانه.
وكانت إحدى غايات باراك أوباما من الإتفاق النووي (2015)، ليس الحؤول فقط بين إيران والقنبلة، وإنما أيضاً فتح الأسواق الإيرانية أمام الشركات الأميركية. أتى دونالد ترامب، تحت ضغط القاعدة الإنجيلية ونتنياهو، ليوجه ضربة قاتلة للإتفاق، بالإنسحاب منه عام 2018، ولتعود العلاقات بين واشنطن وطهران لتبلغ ذروات جديدة من التوتر. وربما ساور الحكومة الإيرانية في لحظة ما بعض التفاؤل، بأن بايدن لن يتأخر في إعادة واشنطن إلى الإتفاق. لكن الرئيس الديموقراطي أراد استخدام عقوبات ترامب رافعة لإبرام اتفاق جديد مع إيران.
منذ اشهر، اعتمدت إيران ما وصفه دنيس روس بـ”الضغوط القصوى” (تيمناً بحملة الضغوط القصوى لترامب ضد طهران) على إدارة بايدن، من زيادة تخصيب الأورانيوم إلى درجة نقاء 20 في المئة، ورفع عدد أجهزة الطرد المركزي، كماً ونوعاً، وتقييد مهمة المفتشين الدوليين، مع تصعيد إقليمي في اليمن والعراق.
والآن، ذهبت إيران إلى توقيع إتفاق الشراكة مع الصين، الذي سيشكل رافعة لها للصمود في وجه العقوبات الأميركية. وثمة من يعتقد أن أميركا هي من حملت إيران على “الإرتماء” في أحضان الصين. كما أن أوروبا التي ترددت في تعويض طهران خسائرها الناجمة عن عقوبات ترامب، هي أيضاً، دفعت النظام الإيراني، إلى إزالة التحفظات وتوقيع إتفاق الشراكة مع الصين.
بعد إتفاق الشراكة، صار في إمكان إيران أن تفاوض الأميركيين من موقع من بات رأسه فوق الماء إقتصادياً، وليس من موقع الإنهاك.
ولا بد من طرح السؤال التالي: لماذا لم يلمس وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ما سماه “إشارات أميركية إيجابية” حيال إمكان العودة إلى خطة العمل المشتركة الشاملة، إلا بعد التوقيع على إتفاق الشراكة بين الصين وإيران؟
وسؤال استطرادي آخر، لماذا هرعت القوى الأوروبية الثلاث الموقعة على الإتفاق، فرنسا والمانيا وبريطانيا، إلى ترتيب إجتماع مع روسيا والصين وإيران، يوم الجمعة الماضي، ناقشت فيه السبل الواجب اعتمادها لإحياء الإتفاق النووي، ليتقرر بدء مفاوضات غير مباشرة بين طهران وواشنطن في فيينا إعتباراً من الثلثاء.
لا يمكن انكار أن إتفاق الشراكة الصيني – الإيراني، قد حرّك المياه الراكدة على مستوى الإتفاق النووي، وجعل أميركا باستدراك متأخر تقرر أنها لن تتخلى للصين عن إيران، وأن ثمة نافذة لم تقفل بعد أمام الرهان الأميركي الدائم على الفوز بحصة إيرانية وعدم جعل الصين وروسيا أيضاً تستأثران بالموقع الإيراني، في سياق المواجهة العالمية الأوسع.
يتناغم هذا الاعتقاد مع التقسيم الدولي الحاد الذي بدأ يبرز عقب فشل الحوار الأميركي – الصيني في ألاسكا، ونُذر الحرب الباردة الجديدة بين الإصطفافات الجديدة للقوى العالمية. أميركا وبريطانيا والإتحاد الأوروبي واليابان واستراليا، وإلى حد ما الهند، من جهة، والصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران، من جهة ثانية.
قد لا ترقى الحرب الباردة الجديدة، إلى تلك التي دارت بين الغرب والإتحاد السوفياتي في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم، على اعتبار أن الولايات المتحدة والصين اليوم على رغم “التنافس الشرس”، وفق تعبير مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان، فإنهما لا يزالان يعتمدان على بعضهما إقتصادياً، لكن من يضمن كيف يمكن أن تتطور الأمور مستقبلاً؟
في السباق، أو في مرحلة الصراع على إيران، إذا جاز التعبير، سجلت الصين نقطة مهمة في مواجهة الولايات المتحدة، بينما إختارت إيران الإنتقال شرقاً، وكسر مفهوم تقليدي ساد تاريخياً عن إيران الدولة التي لا يمكن إلا أن تكون غربية على رغم القطيعة المستمرة مع الولايات المتحدة منذ 1979.
وفي محاولة للتقليل من شأن إتفاق الشراكة الصيني – الإيراني، يقول مسؤولون في الولايات المتحدة والغرب عموماً، إن هذا الإتفاق، يرتّب على إيران تقديم تنازل إيديولوجي مهم، ألا وهو كسر شعار “لا شرق ولا غرب” الذي رفعه الخميني عقب إسقاط نظام الشاه. لكن ذلك لا يلغي أن الإتفاق الصيني ـ الإيراني أوجد واقعاً جيوسياسياً جديداً لا يصب في مصلحة الغرب.