تكمن مشكلة بنيويّة في أساسات المبادرة الفرنسية، وهي مشكلة تتخطّى شكل المبادرة وبنودها ومضامينها وطريقة تنفيذها، لتلامس المعضلة الأهمّ التي تحول دون قيامها على النحو الذي نريده ونشتهيه. أصل هذه المعضلة هو فرنسا نفسها. أي الدولة التي فقدت دورها وحضورها وتأثيرها، واستحالت إلى ما يشبه مثقف العائلة العجوز المتوتر دائماً، ليس على صعيد المنطقة وحسب، بل على مستوى أوروبا والعالم برمّته.
ليس عابراً أن يزور الرئيس الفرنسي لبنان مرّتين، لا لتغيير النظام المتجذّر، ولا لنزع سلاح حزب الله، بل لتشكيل حكومة جديدة تحظى بموافقة الجميع، بعد واحدة من أكبر الكوارث التي عرفها لبنان منذ ولادته. لكنه لم يستطع، على الرغم من محاولته، بكل الوسائل الممكنة، فتح خطّ بين الإليزيه والرئاسات الثلاث، ثم خطّ مشابه مع قيادات الصف الأول، وإجراء اتصالات مكوكية مع ايران ومصر والسعودية وأميركا وروسيا والإمارات وغيرها من الدول، وعقد اجتماعات أوروبية على أعلى المستويات، وإعطاء مهلة تلو أخرى، ثم التلويح العلني والمباشر بعقوبات تطول المعطِّلين. لقد وضع ماكرون كلّ ثقله الشخصي، بعدما صارت الأزمة اللبنانية مرتبطة على نحو وثيق بترشّحه لولاية رئاسية جديدة، ثم استخدم كل ثقل بلاده السياسي للدفع في اتجاه تشكيل حكومة جديدة، لكنّ شيئاً لم يتغيّر.
حزب الله، أي إيران، لا تبيع فرنسا موقفاً، ما دامت تنتظر بيعه لأميركا ضمن تسوية كبرى، إذا ما صبرت قليلاً وانتظرت. ولماذا قد تبيعه لفرنسا أساساً؟ لمنع التمدد التركي في شرق المتوسط؟ ليربح ماكرون ولاية ثانية؟ لوقوف فرنسا إلى جانبها، على سبيل المواساة لا أكثر، بعدما مزّق ترامب الاتفاق النووي وأعاد فرض عقوبات لامست سياسة الضغط الأقصى؟ لا شيء يدفع إيران إلى إبرام تسوية تُخرج لبنان من سلّتها الإقليمية مع دولة بلا تأثير، بل بلا قدرة على إعطاء أيّ شيء ملموس. هذا ما يُقال حرفيّاً عبر المنابر وفي الصالونات السياسية.
يدرك سعد الحريري تمام الإدراك، على الرغم من اندفاعه وترحيبه وتمسّكه ورغبته الحقيقية في إنجاح ونجاح المبادرة الفرنسية، أنّ فرنسا غير قادرة على توفير غطاء سياسيّ ولا اقتصاديّ ولا ماليّ، وأنّ الممرّ الإلزامي لا بدّ أن يبدأ، تحديداً، من المملكة العربية السعودية، ومعها دول الخليج، معطوفاً على ضوء أخضر أميركي، وهذا ما لم يكن متوافراً على مدى ستة أشهر من عمر المبادرة، وأيّة اندفاعة نحو تشكيل حكومة لا تحظى بغطاء مباشر من هؤلاء، ستكون محكومة قطعاً بالفشل والسقوط المدوّي، ولا سيما في وضع داخلي لامس حدود الانفجار والانهيار الكارثيّ والشامل وغير المسبوق.
ما ينطق على حزب الله وسعد الحريري، ينطبق على الجميع، وإن بنسب متفاوتة. القاسم المشترك يكمن في إدراكهم جميعاً أنّ فرنسا خسرت منذ زمن بعيد حضورها ودورها، ولم تعد صانعة سياسات على الصعيد الدولي، بل هي تعجز أن تكون لاعباً أساسياً أو ثانوياً أو حتى في صفوف الاحتياط.
في البدايات، اكتسبت المبادرة أهميتها استناداً إلى مجموعة من العوامل المؤثرة:
أوّلاً: بسبب حجم الفاجعة التي حلّت ببيروت وأهلها، وأرغمت الطبقة السياسية برمّتها على تمرير العاصفة وامتصاصها بأيّ شكل من الأشكال.
ثانياً: الحضور الفرنسي السريع والوازن على أعلى المستويات، الذي أعطى انطباعاً قويّاً أنّ المبادرة تحظى بتغطية دولية كبرى، ولا سيما أنّها توازت مع مجموعة كبيرة من الاتصالات التي قادتها فرنسا بدول محورية ومؤثرة.
ثالثاً: الاجتماع المطوّل بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عقب انفجار المرفأ بأسبوعين، الذي اكتسب أهميةً تستلزم التأمّل والتمعّن، ولا سيما أنّ ألمانيا هي ذراع أوروبا المالية والاقتصادية، وأنّ الاجتماع خصّص يومذاك حيّزاً كبيراً للبنان، وتفاهم الحاضرون على “وضع دعائم لرافعة فرنسية – ألمانية تحاول التعويض عن دور واشنطن في مواجهة عدد من الأزمات المتوسطية، وبينها أزمة لبنان، وثمّة من همس أنّ اسم مصطفى أديب طرح للمرة الأولى في هذا الاجتماع”، على حد ما ورد في مقالة للزميل حسين أيّوب في موقع “180”.
ساهمت هذه العوامل مجتمعة، إلى حدّ بعيد، في تزخيم المبادرة الفرنسية لحظة انطلاقها، لكنّها تبددت تباعاً، وصولاً إلى انهيارها الكامل لحظة فرض العقوبات الأميركية على الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس، لأنّ هذه الرسالة كانت كفيلة بكشف حقيقة المبادرة الفرنسية، وحصرها ضمن خانتين: الأولى تتعلق بحميمية العلاقة التاريخية الدافئة بين لبنان وفرنسا، ورغبة الأخيرة الصادقة في إنقاذ الوضع قبل انهياره الشامل. والثانية محورها رغبة فرنسية في لعب دور سياسي واقتصادي واستراتيجي، إن عبر مواجهة التوسّع التركي نحو المتوسط، وإن عبر الاستثمار في الغاز والنفط والمرفأ.
سقطت المبادرة الفرنسية للمرّة الأولى إذاً لحظة استقالة مصطفى أديب، وارتبط سقوطها تماماً بالخلاصة التي صارت في متناول الجميع، وهي أنّ فرنسا تبادر بلا أيّ غطاء أو تكليف، وموقعها المجرّد لا يسمح لها بلعب أيّ دور يتجاوز دور الوسيط المساعد أو المساهم في تذليل العقبات، حالها كحال الخليليْن أو المدير العام للأمن العام مع اختلاف النيّات، على حد تعبير أحد الظرفاء!
اليوم، وبعد ستة أشهر على إطلاق المبادرة، وبعد تغيير الإدارة الأميركية، وتفويض فرنسا أميركياً باستكمال مبادرتها، في صيغة متجدّدة، ينشأ حراك داخلي يرتكز على تدوير الزوايا وإعادة انتاج صيغة مقبولة لتشكيل الحكومة. وهو حراك بدأ مع دعوة وليد جنبلاط المباغتة إلى التسوية، من قصر بعبدا، وتطوّر مع موقف أميركي موارب ومستجدّ من الأزمة القائمة، معطوفاً على رغبة متنامية وملحوظة لدى الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن في إعادة تفعيل العلاقات مع الدول الأوروبية. ثم أخذت الأمور تسلك طريقها نحو البلورة، إن عبر الحركة المكّوكية للسفراء وإن عبر المبادرة التي طرحها الرئيس نبيه برّي، فيما أعطى الخبر المتداول عن الخطة الألمانية المقترحة، القائمة على ضخّ مليارات الدولارات لإعادة بناء مرفأ بيروت ومحيطه، الصورة الأدقّ والأكثر كثافةً عن غطاء دوليّ آخذ في التوسع. خصوصاً أنّ الخطة الألمانية ترتبط بتشكيل حكومة لبنانية جديدة “تمتلك تفويضاً لإجراء إصلاحات”، وفق ما أوردت وكالة رويترز.
لا بد من انتظار مزيد من التطوّرات الوازنة والمؤثّرة، وتحديداً على الخطّين الأميركي – السعودي، والأميركي – الإيراني، ليُبنى على الشيء مقتضاه، ونعرف من بعدُ مصيرَ المبادرة الفرنسية: هل تبقى جثة هامدة أم تتحوّل إلى مشروع قابل للحياة؟
وفي هذا الإطار، لا بد من الإشارة إلى بيان الرئاسة الفرنسية التي أعلنت أن الرئيس ماكرون وولي العهد السعودي محمد بن سلمان يتشاركان “الرغبة نفسها في رؤية حكومة ذات مصداقية في لبنان لإخراجه من أزمته الحادة”، وأشارت الرئاسة إلى أنهما يعتبران أنه لابد من حكومة “قادرة على تنفيذ خريطة الطريق للإصلاحات المطلوبة للنهوض، والتي التزم بها القادة السياسيون اللبنانيون”، مشدداً على أنّ تشكيلها “شرط لحشد مساعدة دولية طويلة الأمد”.
لكن بعيدًا من التفاصيل واليوميات، وبانتظار ترجمة كلمة “مصداقية” كصفة للحكومة المقبلة، ثمّة محصلة لا بد من دراستها والتوقّف عندها مفادها أنّ المبادرة الفرنسية كشفت فرنسا تماماً، وأظهرتها دولةً هامشية، وهي صورة مدوّية لا تستوي مع تاريخها ومكانتها وموقعها. الأمر الذي سيكون بطبيعة الحال محوراً أساسياً ومركزياً في التجاذب الداخلي وفي الانتخابات الرئاسية المقبلة، وسينعكس قطعاً على كل أدوار فرنسا، وعلى ما بقي من حضورها ونفوذها في المنطقة.