بمجرد أن تتجاوز البوابة الحمراء العريضة، التي خُطت عليها عبارة “فوج إطفاء بيروت”، تطلّ وجوه مبتسمة ترحّب بك. تتولى مهمة مرافقتك وهي شاخصة نحوك، تتأمل بصمت، إلى أن تصل الغرفة المنشودة. هل سبق أن استقبلك الموتى؟ هل سبق أن شعرت بنبضهم، بحضورهم، بعطفهم، بجبروتهم، بصدقهم، بتضحياتهم تتجسد أمامك وكأنهم لا يزالون ها هنا؟
هم أصحاب البيت وما غادروه. صورهم المرفوعة على جدار الطابق العلوي للمركز ( في منطقة مار مخايل – الكرنتينا) تنشر سلاماً غير اعتيادي في المكان. كأنما أرواحهم تحيط بالزائرين، تفتح أمامهم الأبواب الموصدة التي قد تنفجر لسبب ما، تستكشف كل شيء من حولهم، تتقدم خطواتهم لتحميهم من دون أن تلتفت إلى الوراء. هؤلاء المبتسمون في صورهم المطبوعة في الذاكرة الجماعية للبنانيين هم الضحايا الأول لانفجار مرفأ بيروت، عناصر فوج الإطفاء العشرة الذين أضيفت أسماؤهم إلى لائحة شهداء الفوج الطويلة: الرقيب أول شربل كرم، الرقيب أول الياس خزامي، الرقيب أول رامي الكعكي، العريف سحر فارس، العريف رالف ملاحي، العريف جو بوصعب، العريف جو نون، العريف شربل حتي، العريف نجيب حتي، العريف مثال حوا.
في يوم الجريمة
في الرابع من آب 2020 رنّ جرس الحريق في المركز فلبّى الشباب النداء كالمعتاد. الاتصال الأول الذي أفاد فوج الإطفاء باندلاع حريق في المرفأ جاء من شرطة بيروت، ثم تلاه آخر من قوى الأمن الداخلي، وثالث من مخابرات الجيش اللبناني. وفق رئيس شعبة العلاقات العامة في فوج إطفاء بيروت الملازم أول علي نجم “أن أحداً ممن اتصلوا لم يكن على علم بالمحتويات الموجودة في العنبر رقم 12 في المرفأ”. سارع الشباب الموجودون على جدول الخدمة في ذلك اليوم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. فور وصولهم ومعاينة المشهدية المرعبة صرخ شربل كرم لرفاقه “اطلبوا الدعم اطلبوا الدعم”. انهمك الرقيب الأول الشجاع في تعديل بزة الإطفاء فوق جسده وهو يتجه بقلب قوي نحو مصدر النيران. وصل إلى المكان. تسمّر أمام باب العنبر وإلى يمينه زميله جو نون وأحد العاملين في المرفأ عماد زهر الدين، وهم من خُلّدت ذكراهم في الصورة الشهيرة التي تداولها العالم كله. حاولوا فتح العنبر لكن بابه خذلهم، ففُتحت النيران التي قذفت بأجسادهم نحو السماء.
هذه الأحداث تُستعاد يومياً بين عناصر فوج الإطفاء. لا يكفّ هؤلاء عن استذكار زملائهم الذين غادروا على حين غرّة. يتحدثون عن بسالتهم وذكرياتهم، منهم من التحقوا بدورة العام 2008 أي كل من شربل كرم ورامي الكعدي والياس خزامي، أما السبعة الباقون فالتحقو ا في العام 2018، لكن لسخرية قدرٍ في بلاد الموت المجاني صدر قرار تثبيتهم بعد مقتلهم في عهد محافظ بيروت الجديد مروان عبود. افتدى هؤلاء بتضحيتهم 348 عنصراً من زملائهم الذين تأخر قرار تثبيتهم عاماً وثمانية أشهر.
في خلال جولة داخل المركز المدمّر يُشير الحاضرون بأصابعهم إلى حيث كانوا ينامون جنباً إلى جنب، ويأكلون ويتسامرون ويتدربون على مواجهة المخاطر. هنا في المركز الذي جمعهم لسنوات لم يبق شيء على حاله. لا حجر على حجر. عصف الانفجار القريب جداً قضى على كل ما في المكان. حتى عمود الدعم في الطابق العلوي تصدّع. الغرف فارغة وزجاج النوافذ المحطمة استبدل بأكياس سود ضخمة لحجب الشمس والأمطار. الأعمال بدأت ولكنها، على ما يظهره الأمر، بطيئة، و قدرت تكلفة إعادة إعمار المركز بـ 10 ملايين دولار أميركي.
الأضرار أيضاً طاولت آليات وسيارات الإطفاء، وبحسب نجم فإن “70 في المئة من الآليات في المركز غير صالحة للاستخدام، فبعضها تضرر جراء الإنفجار وبعضها الآخر يحتاج إلى صيانة”، موضحاً أنه “عقب الانفجار وصلتنا هبات من إيطاليا وفرنسا ولكنها لا تفي بالغرض، إذ إننا نحتاج لإتمام المهام المولجين بها تزويدنا بآليات متطورة وحديثة من صهاريج مياه الإطفاء وسيارات إطفاء وسلالم آلية وملابس، خصوصاً أن تلك التي نرتديها حالياً ناهز عمرها الخمس سنوات وباتت شبه مهترئة”.
بالنسبة لنجم إن “الدعم الأهلي الذي حظي به فوج إطفاء بيروت بعد الخسارة الكبيرة في الأرواح يعني لنا الكثير، وكان سبباً في السلوان والمؤاساة، ولكن ما نحتاجه هو الدعم المعنوي والمادي من بلدية بيروت التي تعتبر السلطة التشريعية المسؤولة عن سنّ القوانين المرتبطة بتسيير شؤون فوج الإطفاء، في حين أن المرجع التنفيذي الذي نخضع له هو محافظ بيروت”، مؤكداً أن “لدى فوج الإطفاء مطالب متعددة أبرزها الحق في معاش تقاعدي عادل، ونأمل من المجلس البلدي ألا يوصد الأبواب بوجهنا”.
وأشار نجم إلى أن “عناصر فوج الإطفاء يستحقون التقدير خصوصاً مع التضحيات الكثيرة التي يبذلونها باستمرار، ففي العام 1990 خسرنا 5 شهداء في حريق محطة كهرباء في منطقة الجمهور. وفي العام 2015 خسرنا شهيداً في إطفاء حريق في مخازن تحت الأرض في منطقة مار الياس. ونتيجة للجهود الكبيرة وأهمية وجود مراكز لفوج الإطفاء استحدثنا عقب انفجار المرفأ مركزاً في منطقة أرض جلول، لا سيما بعد الاكتظاظ السكاني فيها، وآخر داخل المرفأ تحسباً لأي طارئ”.
لا مكان للخوف
وعن احتمال تراجع عزيمة العناصر بعد مقتل زملاء لهم، يؤكد نجم أن “الأولوية بالنسبة لنا هي حياة الناس ولا يمكن لأي شيء أن يحبط عزيمتنا، على العكس نحن فخورون بما أنجزه عناصر الفوج العشرة، فكل واحد منهم خلال مسيرته في فوج الإطفاء أنقذ حياة العديد من الناس. والدليل على كلامي، أنه بعد أيام قليلة على استشهاد العناصر اندلع حريق آخر في المرفأ، وساد الهلع بين الناس، سارعنا في الفوج إلى إقفال البوابة الحديدية لمنع العناصر من الوصول إلى المرفأ ريثما تصلنا معلومات أكيدة حول ما يحدث، تفادياً لكارثة جديدة، لكنهم قفزوا خلف السور وركضوا نحو المرفأ لتلبية نداء الناس، خصوصاً بعد كمّ الاتصالات التي تلقيناها. لا مكان للخوف في قلوبنا. الأولوية بالنسبة لنا هي تلبية أي نداء، فلا يمكننا أن نخذل الناس الذين أحاطونا بكم هائل من الدعم. لا يمكن أن نقف مكتوفي الأيدي بينما الصراخ خارجاً يملأ الفضاء”.
ما يضاعف معاناة فوج الإطفاء هو وضعهم القائم على “إجر بالعسكري وإجر بالمدني”، فبحسب التعريف إن فوج الإطفاء الذي يقسم عمله إلى قطاعات الإطفاء، الدعم والإنقاذ، والإسعاف، هو مجموعة فنية مدربة تدريباً عسكرياً، إذ هناك الكثير من الخصائص التي يتشارك فيها هؤلاء مع السلك العسكري من ناحية النظام، ولكن يختلفون عنه من ناحية الحقوق والامتيازات الوظيفية. وهو ما يوضحه رئيس اللجنة القانونية وعضو المجلس البلدي في بلدية بيروت طوني سرياني، مؤكداً في حديث مع “نداء الوطن” أن “عناصر فوج الإطفاء يعاملون وفق سلسلة الرتب والرواتب لقطاع فنيّي الطيران المدني، وذلك جاء بالتوافق في المجلس البلدي لكي نضمن لهم هامشاً أكبر من الحقوق”، مشيراً إلى أن “ما يطالبون به في ما يتعلق بالنظام التقاعدي لا يمكن اعتماده، لأن أي قرار يتخذه المجلس البلدي في هذا الخصوص يجب أن يراعي ميزانية البلدية ومصاريفها. لا يمكن أن نوافق على إدراج أي نفقات إضافية قد تؤدي إلى إفلاس البلدية، ولا سيما أن لدينا مثالاً حياً أمامنا متمثل بالدولة اللبنانية التي تكاد تصبح على شفير الإفلاس بسبب التوظيفات العشوائية التي تجاوزت الميزانية بأشواط”.
ويوضح سرياني أن “مطلب فوج الإطفاء يتمحور حول تعديل القانون الذي ينص على أن العنصر المتقاعد يستفيد من راتبه كاملاً في حال إتمامه 40 عاماً في الخدمة الفعلية. بالنسبة لهم، إن أحداً لا يراكم هذا العدد من السنوات بل إن معظمهم يتقاعد مستفيداً من 25 في المئة فقط من الراتب. وعليه، يطالبون بتخفيض السن من 40 عاماً إلى 25 عاماً، لكن هذا بالنسبة إلينا ينطوي على مشاكل عديدة أبرزها أننا سنخسر الكادر الفني في صفوف الفوج، لأن غالبيتهم عندما يُتمون 25 عاماً في الخدمة الفعلية سيتقدمون بطلب تسريحهم من المؤسسة، وبالتالي سيفقد فوج الإطفاء الخبرة التي يراكمها هؤلاء. هذا بالإضافة إلى أننا سنضطر إلى تطويع عناصر جديدة ما سيؤدي إلى تضاعف حجم كتلة الرواتب وما يرافقها من ضمان صحي”.
ووفقه فإن “مجلس بلدية بيروت يقدر جهود عناصر الفوج ونحن منفتحون على أي اقتراح أو مطلب، لا بل يمكننا أن نناقش معاً وندرس إمكانية أن يكون لهذا الفوج قانون خاص وسلسلة رتب ورواتب خاصة أيضاً”.