بقلم : أحمد عز الدين
عندي أنه ليس ثمة مصادفة أو مفاجأة واحدة في كل أحداث ساعات وأيام هذا الأسبوع الملتهب، الذي مرّ في شرايين وقلب قناة السويس، وفي كل الدوائر التي أحاطت بها.
وإذا كانت نقطة بداية الميلودراما المصنوعة بإيقاعها المتصاعد هي النجاح في دفع صاروخ مصمت على شكل سفينة متورمة طولا وعرضا وارتفاعا ووزنا، عند نقطة منتخبة لسد الشريان القديم والجديد في وقت واحد، فقد كانت نقطة النهاية التي أوقفت الوصول إلى ذروة الميلودراما، هي النجاح المصري المذهل، في استئصال التورم الذي رشق جزءا من جسده في بنية القناة، وإزاحته إلى خارجها.
وفيما أحسب فإن السيناريو المضاد قد بنى تقديره على عنصرين أساسيين هما : حسابات القدرة وطنيا وفق تصوره، وحسابات الوقت دوليا كما ستجري بها آثاره المدمرة على التجارة الدولية، وعلى اقتصاد دولي يترنح تحت تأثير أزمة هيكلية خانقة، فمع اتساع السقف الزمني دون أن تصل هذه القدرة إلى شاطئها، كما هو متوقع، سيمكن الوصول إلى لحظة الاشتعال التي سيبدو في وهجها، أن المصالح الدولية المأزومة قد أصبحت فوق المصلحة الوطنية العاجزة، مما سيفرض تشكيل قوة عسكرية غربية متعددة الجنسيات، تمنح نفسها مشروعية التدخل لتصحيح الوضع، استنقاذا للعالم من براثن أزمة مغلقة، ثم تنتهي إلى بقائها لفترة وجيزة لتسيير الأعمال، وحتى تهدأ العاصفة ويتم احتواء تداعياتها، ثم تتوالى عواصف أخرى مصنوعة، تسمح باستمرار البقاء، متزامنة مع تفعيل منصات الاختراق وأعمال المخابرات المضادة في البيئة الداخلية.
لهذا لم يكن الهدف الاستراتيجي من عملية سد القناة، هو البرهنة على فشلها، أو انحدار أهميتها الإستراتيجية، أو تزكية خيارات قنوات أخرى بديلة لها، فموقعها الاستراتيجي في كافة الاستراتيجيات العسكرية الدولية، أو استراتيجيات النقل البحري، ثابت ومؤكد، وستظل القناة موقعا استراتيجيا حاكما تمثل الجسر الطبيعي اللاحم، بين نصف الكرة الأرضي الشرقي ونصفها الغربي، وهو موقع ليس قابلا للنسخ، وليس قابلا للاستنساخ، لم يكن الهدف إذا هو البرهنة على فشل القناة، وإنما البرهنة على فشل الدولة المصرية في إدارة وحل أزمة مستعصية، تعرضت لها عن طريق يبدو من قبيل المصادفة البحتة.
قد لا أكون مبالغا إذا قلت أنني رغم إدراكي للخطر، لم أكن وجلا، فبيني وبين قناة السويس صلات عميقة قديمة، كان أحد وجوهها إقامة في قلبها لمدة أسبوع بدعوة من رئيس هيئتها آنذاك المهندس محمد عزت عادل، وقد كانت الدعوة موصولة ببروز نمط جديد للتهديدات والمخاطر في البحر الأبيض، في شكل ألغام عائمة مجهولة المصدر بدا أنها تستهدف الممر البحري كله، بما في ذلك القناة، لكن هذه الأيام كانت من أكثر الأيام توهجا في حياتي، فقد رأيت ولمست من قرب أسطورة القناة، تفحصت وثائقها، وعاشرت غرف عملياتها، وانبهرت بخرائطها المستقبلية، التي تعكس رؤية إستراتيجية واسعة لكل ما يحيط بها، سفنا وبضائع وبترولا وقوى بحرية ومتغيرات منتظرة أو محتملة، وخرائط وضعت لهذه المتغيرات بمستوياتها المتعددة في المدى القريب والمتوسط والبعيد .
لقد رأيت على خرائط القناة ( بصمات ) كاملة لكل سفينة أيا كان موقعها، بل ولأي سفينة تم البدء في بنائها في أي مكان فوق خريطة الدنيا الواسعة، فقد كان منهج العمل علميا ومعرفيا ووطنيا، لا يليق إلا بأجهزة المخابرات الكبرى، وأذكر أنني قلت للمهندس محمد عزت عادل، قبل أن أغادر أنني سأطرح على من يعنيه الأمر في القاهرة إحدى توصيتين، إما أن تأتي الحكومة الحالية إلى القناة، وتمضي وقتا بها تستعير منها منهج عملها الوطني، وإما أن يتم تشكيل حكومة من العقول المبصرة في القناة تضفي على منهج الحكومة ما تفتقر إليه وما نحن في حاجة ماسة له، وفيما احسب فإن هذا المنهج المنغمس في تراث تاريخي متجدد من المعرفة والعلم والإدراك والإرادة الوطنية الصادقة، هو الذي أسقط سيناريو متكامل الأركان لم يكن هدفه إحداث انسداد في شريان القناة أو في قلبها، وإنما في شريان مصر وفي قلبها، فتلك هي مرحلة الانقلاب الإستراتيجي الشامل في أوضاع الإقليم، والتي تمثل مصر دون منازع العاصمة الإستراتيجية له.
إن ما حدث في قلب قناة السويس، ليس السيناريو الأول، ومن المؤكد أنه ليس السيناريو الأخير، وهو سيناريو بالغ الخطورة، ولكنه ليس السيناريو الأخطر !