الحل بثورة بيضاء
يذكر علم الاجتماع أنّ حركات اللاعنف ليست هروبا واستسلاما، وليست عمليًا ضد مبدأ الحياد، وهي لا تحمل البُعد السلبي، كما أنّها ليست فضيلة أخلاقية هدفها توفير السلام الداخلي والخلاص الفردي، بل هي جوهر عمل يتوخّى التأثير منه على واقع سياسي ـ أمني ـ إقتصادي ـ مالي ـ إجتماعي مرير.
عملياً وقانونياً، إنّ حركات اللاعنف تهدف مباشرة إلى مواجهة الظُلم بكل أشكاله كما هو حاصل اليوم على الساحة اللبنانية من ضرب ممنهج للمؤسسات الرسمية على أيدي مَن توالوا على السلطة متخطّين مقدمة الدستور والقوانين الدولية والمحلية المرعية الإجراء. غايتنا السياسية العادلة لإعادة إنتاج سلطة سليمة تتطلّب وسيلة عادلة، والغايتان السياسية والإنسانية تستلزمان وسيلتين متجانستين، ألا وهما: منظومة سياسية يقودها مناضلون شرفاء ووسيلة احتجاج بيضاء إنسانية. وبتلك المنظومتين نُلبّي متطلبات حياة سياسيّة كريمة يعمل لها الصرح البطريركي والمناضلون الشرفاء، كما تُلبيان فعالية التأثير في الواقع السياسي ـ الأمني ـ الإقتصادي ـ المالي ـ الإجتماعي مع الغاية المنشودة، حيث لا نبقى أسرى الإشكالية القائمة على مبادئ تقاطع المصالح الخاصة وتخطّي القوانين المرعية الإجراء.
إنّ الوضع العام في لبنان هو نِتاج توافق قسري بين زعماء لقطاء على الحياة السياسية اللبنانية، يحكمون خلافاً للنظام الديموقراطي باسم ما ابتدعوه وسمّوه «الميثاقية» من دون أي اعتبار للقوانين ولأحكام الدستور، وعملياً يسيطرون على كل مفاصل الدولة الإنتاجية ـ المالية ـ السياسية (مجلس نوّاب ـ مجلس وزراء ـ سلطة إجرائية) وغيرها من المؤسسات الرسمية عبر ما يُعرف بالمحاصصة والمصالح الخاصة المُمنهجة دونما خجل ووجل. إنّ الأزمة الحالية إن استمرّت على ما هي عليه ستؤدي حتماً إلى انهيار مؤسسات الدولة تباعاً بسبب سلطة الأمر الواقع القائمة على توازن المصالح الخارجية والأسلوب الديكتاتوري المعمول به على «اللسْ»، كما يُقال بالعامية. إنّ السلطة الحالية هي مجرّد أدوات بيد غريب يسعى إلى توسيع منظومته السياسية على حساب سيادة بعض الدول المجيّرة على يد الطبقة الحاكمة. وهنا، على مَن هم في سدّة المسؤولية، سواء أكانوا علمانيين أو من الإكليروس، التنَبّه إلى خطورة الأمر الحاصل، فالمطلوب عدم تغطية تلك السلطة العفنة بمطلب «التوافق على تشكيل حكومة»، بل المطلوب فعلياً المطالبة باستعادة السيادة الوطنية التي سلبها من يُمارسون تلك السلطة الصُورية، أي عملياً الإنتقال من سلطة ضعيفة حاقدة فاقدة للحس الوطني والإجتماعي إلى سلطة قانونية شرعية وفقاً لمقدمة الدستور إستناداً إلى الفقرة «د» منها: «الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يُمارسها عبر المؤسسات الدستورية».
سأستعرض بعض المعلومات الأساسية عن المبادئ القانونية الرئيسية في القانون الدولي لحقوق الإنسان التي تحكم حق الشعوب في اتخاذ التدابير للتخلص من سلطة فاسدة في حالات كالحالة اللبنانية. والواقع اللبناني لا سبيل إلى نكرانه، حيث نواجه أزمة حكم خطيرة. وأرى من الضروري في تلك الحالة التوجّه نحو بعض الخطوات السلمية من أجل استعادة النظام الديموقراطي والسلام المحلي والإقليمي والدولي. وفي حال بَقينا على تلك الحالة الشّاذة حكماً ستكون هناك نتائج مفجعة، ليس فقط على الشعب اللبناني المتضرِّرْ من الوضع العام المفروض فحسب بل وكذلك للسلام والعدالة. تاريخياً، إنّ من قاموا بوضع مشروع العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنيّة والسياسية أدركوا جميعاً حق الإدراك أنّ الإعتراف بحقوق الإنسان للجميع يُشكّل أساس الحرية والعدالة والسلام في العالم. إنّ علمي السياسة والقانون يعتبران أنّ التعسُّف في استعمال السلطة غير قانوني بموجب المعاهدات الدولية، التي تُجيز بما يُعرف بـ»الضرورة القصوى» للحدّ من خطورة الأمر. وهناك تحليل منطقي لمفهوم الضرورة القصوى ووصفٍ موجز لشرط الإتّساق مع الإلتزامات القانونية الدولية الأخرى، لأنّ أي وضع كوضع لبنان لا يحتمل التأجيل أو المراوغة أو حتى الرياء، أو المواقف الاعتباطية على ما هو حاصل اليوم والأمثلة كثيرة، وأذكر على سبيل المثال ولا الحصر: «توافقوا أيّها الزعماء»، و»تفاوضوا ـ تصالحوا ـ إجتمعوا» كلها كمن يطلب من الشعب تعبئة المياه في سلة من القش على ما يقول المثل.
إنّ الحالة السياسيّة الإقصائية القائمة في لبنان هي نقيض النظام الديموقراطي، وتُعتبر تقييدّاً غير متناسب للحقوق السياسية للشعب اللبناني، والأسلوب المُمارس حالياً على يد الطبقة السياسية الحاكمة وفّر أرضية لإقصاء سياسي شبه كامل في حق المناضلين الشرفاء إعتماداً على عدم إشراكهم في منظومة إعادة تكوين السلطة، والأمر الأكثر خطورة هو التوجّه نحو السلطة القائمة والطلب منها التوافق في ما بينها على إعادة تكوين السلطة عبر تشكيل حكومة جديدة، مُتناسين حجم المآسي التي حصلت جرّاء تلك الممارسات الخطيرة التي انتُهِجت سابقاً وأدتْ إلى ثورة 17 تشرين البتول.
دائماً في بحثي أركّز على علمي السياسة والقانون لأذكّر كل من يُحاول إيجاد مخرج ما للأزمة، سواء أكان بطريركاً أو مسؤولاً داخليا منسقا كان أو مسؤولاً أممياً، إنّ الدولة اللبنانية بصفتها دولة طرف في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنيّة والسياسيّة يتعيّن عليها التفاوض مع المناضلين الشرفاء وأن يُسمح لهم المشاركة في إدارة الشؤون العامة، إمّا مباشرة وإمّا بواسطة ممثلين يُختارون في حرية من دون تمييز أو فرض قيود غير منطقية. ولا حاجة لتذكير سيدّنا البطريرك ومعاونيه والمجتمع الدولي، أنّ الشعب اللبناني عانى الديكتاتورية، وهو الآن يُكافح من أجل بناء مجتمع ديموقراطي تُحترم فيه حقوق الإنسان، ولديه مخاوف مشروعة من تقويض هذه الجهود على أيدي أشخاص يعكس سلوكهم الماضي والحاضر الطابع الإجرامي والقمعي الفاسد. ومن أجل تحقيق تقدّم في استرجاع الدولة من خاطفيها وبين الحاجة إلى ضمان بيئة سياسية سليمة واحترام حق المناضلين في المشاركة السياسية، يتعيّن على السيّد البطريرك والمجتمع الدولي الممثّل ببعثاته الديبلوماسية في لبنان إعادة صياغة مشروع حل للتقليص من القيود المفروضة على الحقوق السياسية للمناضلين، إشراك المناضلين الشرفاء في السلطة التنفيذية عملاً بنص المادة 25 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، حيث تنص على أنّه لا يجوز تعليق أو إبطال ممارسة المواطنين لتلك الحقوق إلّا لأسباب موضوعية ومعقولة ينص عليها القانون، والإبطال لا تنطبق أحكامه على واقع الشعب اللبناني، والحل يبدأ بثورة بيضاء نتيجتها إشراك المناضلين الشرفاء في السلطة التنفيذية… وللبحث تتمّة.