لبنان بين خياري الإنقاذ أو السقوط والزوال
العميد الركن نزار عبد القادر -اللواء
في ظل الأزمة المعيشية المتفاقمة بسبب شح السيولة بالدولار، وفي ظل الأزمة الاقتصادية التي يغرق فيها البلد، يواجه لبنان مشكلة كبرى في قطاع الكهرباء بسبب صعوبة توفير الأموال اللازمة لاستيراد «الفيول» اللازم لتشغيل معامل الكهرباء المتداعية منذ ما يقارب ثلاثة عقود، في وقت زادت فيه ساعات تقنين التيار على 12 ساعة يومياً. أقرّ المجلس النيابي في جلسته العامة يوم الاثنين الماضي إعطاء سلفة خزينة بقيمة 200 مليون دولار لمؤسسة كهرباء لبنان، بعد موافقة اللجان المشتركة على مشروع قانون معجل مكرر لمنح هذه السلفة، الكافية لتأمين التشغيل لفترة شهرين تقريباً.
وافق المجلس النيابي على إعطاء سلفة الخزينة هذه في أعقاب تحذير وزير الطاقة من توجّه لبنان إلى «عتمة شاملة» في نهاية شهر آذار إذا لم تتوافر الاعتمادات اللازمة لشراء المحروقات. وتؤكد موافقة المجلس على هذه السلفة على استمرار السلطة اللبنانية (حكومة ومجلساً نيابياً) على الاستمرار في الدوران في حلقة مفرغة في تعاطيها مع أزمتها الاقتصادية والمالية المستمرة منذ عقود، والتي انفجرت بشكل كامل بعد استقالة حكومة سعد الحريري بعد بداية الانتفاضة الشعبية في 17 تشرين أول 2019.
لم تنجح حكومة حسان دياب التي استقالت بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020، في ترجمة وعودها بعد تأليفها إلى برنامج إصلاحي قابل للتنفيذ بالرغم من ادعاء رئيسها في أحد بياناته بأنها قد نفذت 96 في المائة مما وعدت به، في الوقت الذي فشلت فيه بالقيام بأية خطوة لوقف الانحدار المتسارع نحو القعر. وكان مجلس الوزراء قد أقر في 30 نيسان 2020 خطة الإصلاح المالي، والتي ناقشها لاحقاً في اجتماعات مع رؤساء الكتل النيابية في قصر بعبدا بحضور رئيس الجمهورية، وتضمنت الخطة عدة عناوين من بينها الإصلاح المالي، وخطة للنهوض الاقتصادي، ولكن بعيداً عن مناقشة العناوين والأهداف فقد أظهرت الخطة تبايناً بين أرقام الخسائر التي أوردتها والخسائر الحقيقية الحاصلة بسبب سوء الإدارة والفساد المتفشي على كل مستويات القرار في السلطة والإدارة على حد سواء.
لكن بالرغم من إدراج الخطة بضرورة إجراء عملية تدقيق مالي لكل الخسائر المالية الحاصلة خلال عقود، فإن الدعوة لإجراء تحقيق «جنائي» في حسابات مصرف لبنان وفي بقية الإدارات، وفق ما استقر عليه الأمر في مرحلة لاحقة لن تفي بالغرض، وعلى اعتبارها خطوة ضرورية على طريق الإصلاح المالي الشامل، حيث إن تدحرج النظام المالي والنقدي نحو حالة الإفلاس الكامل سيحول دون إمكانية حصول أية عملية إنقاذية للسيادة الاقتصادية الوطنية. فالدولة ومعها النظام المصرفي في حالة من الإفلاس، من دون وجود أي سلطة سياسية أو مالية قادرة على وقف حالة التدهور المتسارعة، والتي يعكسها الانهيار الحاصل في قيمة الليرة مقابل الدولار، مع كل ارتداداتها الاقتصادية والمعيشية.
كان اللافت في الأرقام التي قدرتها الحكومة كخسائر ناتجة عن النزوح السوري إلى لبنان، والتي حددت بـ25 مليار دولار، والتي اعتبرت من بينها الخسائر التي تحملها القطاع السياحي، في الوقت الذي جرى فيه عرض الخطوات للإصلاحات المالية والاقتصادية، فقد خلت الخطة من أية أفكار إصلاحية لبنية القطاع العام، أو للنظام الضريبي كخطوة أساسية على طريق ضبط العجز في مالية الدولة والموازنات العامة للسنوات المقبلة.
إن أول الأخطاء التي ارتكبتها حكومة حسان درياب كان بقبولها بأرقام الموازنة لعام 2020، والتي كانت قد أعدتها حكومة الحريري قبل استقالتها. كان من المفترض فور تشكيل الحكومة أن تطلب الحكومة استرجاع الموازنة من مجلس النواب وإجراء إعادة نظر شاملة بأرقام المصارفات، والعمل على ضبط العجز الكبير فيها.
في رأينا كان من الممكن توفير ما يقارب 500 مليار ليرة من النفقات المدرجة من خلال وقف الهدر في الموازنة، وخصوصاً من خلال وقف الإنفاق على ما يقارب 30 مزراباً للهدر، متمثلة بالصناديق والمجالس والإدارات الرسمية غير المنتجة أو التي لا ضرورة وظيفية أو اجتماعية لوجودها. وهكذا خسرت الحكومة رهانها على القيام بمثل هذه الخطوة الأساسية لاستعادة الثقة الشعبية والدولية بها وبالخطة الاقتصادية التي وضعتها.
من المؤسف أيضاً أن الخطة قد اقتصرت على لائحة طويلة من التمنيات، ولكنها افتقدت وجود خارطة طريق تحدد البرامج الزمنية والأرقام المطلوب تحقيقها، كوسيلة ضرورية لمراقبة مراحل التنفيذ وآليات التصحيح والمساءلة. لذلك غابت كلياً عن الخطة المقاربات العلمية والعقلانية، واكتفت بعرض عام لمجموعة من الأفكار العامة والطموحة لعملية إصلاحية لا يمكن أن يتحقق منها أي جزء. وهذا ما حصل بالفعل، حيث قضى وزراء الحكومة في اجتماعات لجان وزارية طيلة أشهر من عمر الحكومة من دون التوصل إلى ترجمتها إلى إفعال إصلاحية في المجال التنظيمي أو الاقتصادي أو المالي أو النقدي، في الوقت الذي استمرت فيه سياسات الهدر لأموال غير متوافرة، فاقتضى اللجوء إلى طبع المزيد من الأوراق النقدية، حيث بلغت كتلة الأموال المتداولة بالليرة ثلاثة أضعاف ما كانت عليه قبل انطلاق الانتفاضة الشعبية.
وتستمر الحكومة المستقيلة ومعها مجلس النواب في نفس السلوكية الفاسدة والقصيرة النظر في معالجة أزمة الكهرباء، والتي سبق أن كلفت الخزينة 40 في المائة من الدين العام خلال فرة 20 سنة بمعدل ملياري دولار كل عام، هذا في الوقت الذي يأتي فيه إصلاح قطاع الكهرباء في رأس قائمة الأولويات الإصلاحية التي يطالب بها المجتمع الدولي، كشرط أساسي لتقديم المساعدات والقروض التي تقررت في مؤتمر «سيدر»، في ظل حالة التدحرج من السيئ إلى الأسوأ في كل المجالات الاقتصادية والمالية والنقدية، بات على اللبنانيين توقّع الوصول إلى مستويات، لم يسبق أن توقعوها من العوز والفقر، في الوقت الذي يتلهى فيه العهد وحليفه حزب الله بإيجاد كل الأعذار لتأخير أو منع تشكيل الحكومة العتيدة، وفق الرؤية الإصلاحية للمبادرة الفرنسية. وفي الوقت الذي ينشغل فيه الداخل والخارج في كشف المناورات العقيمة لمنع تشكيل الحكومة، يغيب عن ذهن الجميع أي حديث عن وضع خطة إصلاحية قادرة على إنقاذ ما يمكن إنقاذه اقتصادياً ومالياً، وهذا ما تؤشر إليه خطط وجهود ومناورات قيادات حزب الله والتيار الوطني الحر، ومن خلفها إيران، والتي اعتبر المسؤولون فيها أن التحركات التي يشهدها الشارع، معطوفة على مطالب البطريركية المارونية بحياد لبنان وبعقد مؤتمر دولي من أجل المساعدة على فك الوصاية الإيرانية والسورية عن دولته وسيادته، بأنها موجهة ضد محور المقاومة والممانعة.
يبقى الأمل أن تتضافر الجهود الأوروبية والأميركية والعربية لإخراج لبنان من هذه «المؤامرة» الخطيرة التي تتهدد سيادته وأمنه السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وذلك بعدما تحولت الأزمة المالية إلى أزمة سياسية واجتماعية، باتت تهدد الكيان ومستقبل الشعب اللبناني وقدرته على الصمود في أرضه، بعدما دفعت البطالة وانسداد الأفق نحو غد أفضل أكثرية الشباب اللبناني لطلب الهجرة، بحثاً عن عمل أو طلباً لهوية بديلة.
في النهاية، لم يعد أمام اللبنانيين في ظل أجواء العداء والتشنج التي تسيطر على عقول ومواقف القيادات السياسية المعنية بتشكيل حكومة «إصلاحية» جديدة، سوى دعم مبادرة البطريرك الراعي، وتكثيف الحركة الاحتجاجية في الشارع للعودة إلى زخم الانتفاضة في سنتها الأولى، وذلك من أجل استعجال القوى الخارجية الداعمة للبنان للتدخل سياسياً ومالياً لمنع تفكك لبنان وسقوطه ضحية المؤامرة المستمرة ضده منذ عدة عقود، والتي يبدو أنها ممعنة في محاولاتها لتفكيك الكيان، من خلال إضعاف مؤسسات الدولة بما فيها المؤسسات العسكرية والأمنية، والتي تشكل اللبنة الأساسية في بناء هيكل الدولة اللبنانية السيّدة.
هكذا يبقى لبنان معلقاً بين خياري الإنقاذ أو السقوط والزوال بانتظار أن يثبت الشعب قدرته على الصمود والانتصار على هذه الطغمة السياسية الفاسدة، والتي ستتطلب دون شك، دعم ومساعدة القوى العربية والدولية لمواجهة مخطط الهيمنة الإيرانية والقوى الداخلية المتعاملة معه.