قبل أيام نشر “ميغافون” على صفحاته في مواقع التواصل الإجتماعي ورقة تحت عنوان “الخاسرون والرابحون – كيفية التعامل مع خسائر النظام المالي اللبناني” (63 مليار دولار). ففي الوقت الذي كان من شأن الخطة الإقتصادية “نظرياً” حماية 98 في المئة من المودعين وتحميل عبء 2 في المئة، للمصارف وكبار المودعين، أتت النتيجة بعد نحو سنة معاكسة تماماً. حيث أدى تهريب الودائع الكبيرة بمقدار 13 مليار دولار، وتضخيم الكتل النقدية بالليرة M1 إلى أكثر من 42 ألف مليار، إلى تحمّل المودعين خصوصاً والمواطنين عموماً ثقل الأزمة. وقد أدى الإستمرار “الجهنمي” في طباعة الليرات إلى تسييل الودائع وتقليص ديون المصارف. كيف ذلك؟
تذويب التزامات المصارف
من الناحية التقنية يفسّر المستشار المالي د. غسان شماس أن “الودائع تصنف من المطلوبات. وهي دين في ذمة المصرف على الدائنين، أي المودعين. وكل ارتفاع في سعر صرف الدولار في السوق الموازية مقابل تثبيت السحوبات من المصارف على 3900 ليرة يؤدي إلى تقليص ديون الأخيرة بنسبة أكبر. ولفهم العملية نفترض أن سعر 3900 ليرة مقابل كل دولار هو نقطة الصفر التي يتساوى عندها سعر المصرف مع السعر في السوق الموازية. وسحب 3900 ليرة لشراء سلعة ثمنها 1 دولار يؤدي إلى حسم المصرف 1 دولار من حساب المودع وحسم المصرف المركزي 1 $ من حساب المصرف لديه. أمّا في حال ارتفاع سعر الصرف في السوق الموازية إلى 15 ألف ليرة، فيُجبر المودع عندها على سحب 3.8 دولارات من حسابه لشراء نفس السلعة بقيمة 1 دولار. وإذا أصبح سعر الصرف 25 ألف ليرة، فان المودع سيسحب من حسابه 6.4 دولارات لشراء نفس السلعة بقيمة 1 دولار. وعليه فان كل ارتفاع في سعر الصرف في السوق الموازية يخفف دين المصرف على العميل، الذي سيعمد إلى سحب مبالغ أكبر بالعملة الصعبة لشراء نفس السلع.
هذا المثال المعطى على 1 دولار فقط “يصل إلى مئات آلاف الدولارات بالنسبة للسحوبات الكبيرة التي تهدف إلى تمويل المشتريات الضخمة”، بحسب شماس. فحاجة الفرد إلى 100 ألف دولار مثلا لاستيراد السلع أو الحصول على خدمة ما بأسعار صرف الدولار اليوم أي 13000 ليرة، تجبره على سحب 334 ألف دولار من حسابه المصرفي وليس 100 ألف فيكون المصرف التجاري شطب تلقائياً دينا بقيمة 243 ألف دولار، فوق الـ 100 ألف دولار المسحوبة لغرض الإستيراد. ويعمد المركزي بدوره إلى حسم المبلغ من مطلوباته للمصرف. وعلى هذا المنوال تنخفض ديون القطاع المصرفي و”يأكل” التضخم القدرة الشرائية للمواطنين
التضخم: ضريبة جارية
رفع سعر الصرف في السوق الموازية مخطط له بعناية وفق ما يؤكد المشاركون من الفريق الحكومي في اجتماعات صندوق النقد الدولي. وقد سبق لرئيس وفد الصندوق تحذير حاكم المصرف المركزي من مغبة هذه العملية وانعكاساتها الخطيرة على الفقر وانهيار القدرة الشرائية للمواطنين. إنما مع الأسف فانه “لا حياة لمن تنادي”، يقول الخبير الإقتصادي د. وليد أبو سليمان. “فبدلاً من السير بخطة الحكومة التي أقرت بتأييد من صندوق النقد الدولي تحرير تدريجي لسعر الصرف Crawling peg بنسبة 5 في المئة سنوياً ليصل بعد 5 سنوات إلى حدود 4500 ليرة جرى تطيير الخطة والمفاوضات، وفرض ضريبة جارية على كل اللبنانيين تتمثل بالتضخم المفرط. وهذا ما يزيد الشك بان الذي يجري مخطط له وهو ينفذ عن سابق إصرار وتصميم”.
هيركات 80%
وإذا استعرضنا أسعار الصرف الموجودة نرى انه لا يزال هناك 3 أسعار أساسية بحسب أبو سليمان: سعر 1500 ليرة تستفيد منه كارتلات الإستيراد في المحروقات القمح والأدوية. وهناك سعر 3900 ليرة لا يستفيد منه فعلياً إلا المصارف والمصرف المركزي. وهناك سعر السوق الموازي الذي يحمّل كل المودعين هيركات مقنعاً بحوالى 80 في المئة، والمواطنين تضخماً هائلاً وفقدان الليرة لقيمتها الشرائية. وبحسب أبو سليمان فان “الإستمرار في هذه الخطة الممنهجة القائمة على طباعة العملة والتضخم يقوض يوماً بعد آخر إحتمالات الخروج من الأزمة بأقل أضرار ممكنة. فلبنان استنزف خلال عام حوالى 16 مليار دولار من الإحتياطي، ذهب مناصفة بين الإستهلاك والتهريب وإخراج الأموال من دون أن يكون له أي فائدة استثمارية تعيد تحريك الإقتصاد. ولسخرية القدر فان هذا الرقم المفرّط به، يبلغ ضعف الحد الأقصى الذي يمكن للبنان طلبه من صندوق النقد الدولي كقرض استثنائي، (بناء على حصته في الصندوق المقدرة بـ 800 مليون دولار) مقسط على مدى عدة سنوات.
لا بصيص أمل
عدا عن أنه لا يوجد بصيص أمل في آخر هذا النفق المظلم الذي أُدخل فيه البلد عنوة، فان المسار مفتوح برأي أبو سليمان على العديد من السيناريوات السيئة التي “تبدأ بالفقر والجوع ولا تنتهي بالخضات الأمنية”. فتدرّج الأزمة اللبنانية من المالية إلى النقدية ومن ثم الإقتصادية والسياسية بدأ يرخي بثقله على الواقع الإجتماعي. وفي هذه المرحلة يصبح من الصعب بحسب أبو سليمان “السيطرة على الفوضى والإضطرابات التي تحدثها نتيجة سواد الفقر وغياب الخدمات. وهذا ما بدأنا نستشعر به في فوضى التسعير وزيادة المشاكل وتصاعد حدة أزمة الكهرباء… وغيرها الكثير من الإشارات التي لن تبقى كالجمر تحت الرماد لفترة طويلة.
في النتيجة أدت المعالجة المشوهة أو الأصح “اللامعالجة”، للأزمة الإقتصادية وعدم سير الدولة بالخطة إلى تحميل المودعين والمواطنين الكلفة الأعلى للأزمة. أمّا الطبقة السياسية ومن ترعاهم، وصولاً إلى مصرف لبنان والمصارف التجارية، فقد خرجوا بالتدرج كالشعرة من العجين، ونأوا بأنفسهم، لغاية اليوم، عن تحمل أي مسؤولية تذكر.