ناصر قنديل-البناء
– حاولت فرنسا في عهد الرئيس أمانويل ماكرون أن تستعيد صورة الدولة المستقلة والمتوازنة، وأن تقود الاتحاد الأوروبي تحت هذا العنوان، وخلال سنوات مرّت على انتخابه كانت هذه المحاولة تحت الاختبار، والأبرز كان استحقاق الحفاظ على الاتفاق النووي مع إيران، بعدما انسحبت منه إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ووقفت أوروبا قبل أن يبدأ تفكك وحدتها موحّدة تحت شعار حماية الاتفاق. وخلال هذه السنوات فشلت أوروبا وفي المقدّمة فرنسا في تقديم المثال والنموذج الذي كان ينتظره العالم لتقديم نموذج الاستقلال والاقتدار، فبقي القرار الأميركي حاكماً ومقرراً للحركة الأوروبية وفي قلبها الحركة الفرنسية.
– راهنت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن على تغيير في مقاربتها للملفات الساخنة لتتفرّغ لأوضاعها الداخلية، وتستردّ ما وصفه بايدن بقوة المثال بدلاً من مثال القوة الذي وسم به سلفه ترامب، وكان لفرنسا مكانة خاصة في مقاربة بايدن للسياسات الخارجيّة الجديدة، فخطاب بايدن عن المواجهة مع روسيا والصين يبدأ باستنهاض أوروبا وحلف الأطلسي، وفي قلبهما فرنسا، والعودة للاتفاق النوويّ بصورة سريعة تحفظ ماء وجه واشنطن تقوم على رهان عنوانه فرنسا، حتى جاء اختيار بايدن لكل من وزير خارجيّته توني بلينكن ومبعوثه إلى إيران روبرت مالي، الفرانكوفينيين اللذين عاشا وتعلّما في فرنسا تعبيراً عن هذا الرهان.
– دخل الرئيس الفرنسي على خطة الرئيس الأميركي نحو ملفات السياسة الخارجيّة، ووضع معادلة عنوانها حماية الدور الفرنسي بتفويض أميركيّ في التعامل مع الملف اللبنانيّ بعدما خسرت فرنسا نفوذها في ليبيا أمام تركيا، مقابل تحرّكه تحت المظلة الأميركيّة في الملفات الدوليّة وفي طليعتها تفعيل العلاقة الأميركية الأوروبية، وتنشيط حلف الأطلسي، والاصطفاف في مواجهة روسيا والصين، والتحرّك على خط التفاوض مع إيران في شروط العودة إلى التفاهم النوويّ معها، وبدا بعد الاتصال الهاتفي بين بايدن وماكرون أن فترة اختبار أميركيّة منحت لفرنسا.
– خلال أسبوع من الاتصال الهاتفي أعلن ماكرون ضمانته للسعودية بالشراكة في مفاوضات الملف النووي، ضمن معادلة رسمها ماكرون ووزير خارجيّته، تقوم على تولي السعودية تسهيل مهمة فرنسا لبنانياً، مقابل حصول فرنسا على موافقة أميركيّة وإيرانيّة على ضم السعودية إلى مفاوضاتهما حول الملف النووي الإيراني، فسقط الحل اللبنانيّ المنتظر وصار مرتبطاً بالملف النووي الإيراني، على الأقل في التسهيل المنتظر من السعودية، وارتبك الدور الفرنسي الوسيط في مفاوضات الملف النووي بسبب الفيتو الإيراني على الوساطة الفرنسيّة، بعد هذا الإعلان، واضطرار واشنطن لسحب التفويض الممنوح لفرنسا كوسيط، لضمان مواصلة التفاوض، سواء عبر الدور الذي كان مؤجلاً لمبعوثها روبرت مالي، أو عبر تكليف مفوّض السياسة الخارجية الأوروبية جوزيب بوريل بتولي المهمة الفرنسية.
– بدلاً من المراجعة الفرنسية للدور، مضت إدارة الرئيس ماكرون بالهروب إلى الأمام، وبعد خسارة التفويض الأميركي، تواجه مخاطر خسارة التفويض الأوروبي، فوزير خارجية فرنسا أحرج أوروبا بحديثه عن طلب العقوبات الأوروبية على المسؤولين اللبنانيين، ما اضطر بوريل إلى الإعلان عن موقف واضح مختلف عنوانه دعوة الأحزاب اللبنانية إلى إنجاز اتفاق سياسي يتيح منع الانهيار، بينما فرنسا بشخص وزير خارجيتها تريد أوروبا واجهة لضغوط تنقذ مبادرتها المترنّحة، أملاً بتجاوز مأزق وعود ماكرون التي لم تتحقق للسعودية.
– شيئاً فشيئاً تسود نظرية أميركية، وتبدأ لتصبح أوروبية، عنوانها خفة الرئيس ماكرون، ويصل بعض الخبراء الأميركيين للقول إن الشهور الأولى من ولاية الرئيس بايدن ضاعت بسبب خفة ماكرون، وبعضهم يقول إن الانتظار الصيني الإيراني للإعلان عن توقيع الاتفاق الاستراتيجي، كان لمنح بايدن فرصة تظهير مقاربة جديدة للعلاقات الدوليّة، فتمخض بايدن وأجهض ماكرون، على طريقة تمخّض الجبل فأجهض فأراً.