الجهود الأميركية تتعثّر: استجابة أوروبية محدودة بمواجهة الصين

اختيار أوروبا بين واشنطن أو بكين سيكون منوطاً بمَن يؤمّن لها مصالح طويلة الأمد (من الويب)
الأخبار

تسعى الإدارة الأميركية إلى حشد حلفائها، الأوروبيين منهم خصوصاً، لتشكيل جبهةٍ عالميّة مناهضة للصين. لكن دون المساعي هذه عقبات كثيرة تحول دون إتمام مخطَّط الإطباق على منافِستها اللدودة، لعلّ المصالح الاقتصادية التي تجمع حلفاءها ببكين تأتي في مُقدّمها. إزاء ذلك، يُحتمل أن تتعثّر الجهود الأميركيّة فيما لو قرَّر الأوروبيون، الذين تُعدُّ الصين شريكهم التجاري الأوّل، الركون إلى مصالحهم الطويلة الأمد، في موازاة تحالفهم التقليدي مع الولايات المتحدة

منذ دخول الرئيس الأميركي، جو بايدن، البيت الأبيض، كانت نيّته الحفاظ على إرث العداء للصين واضحة، بصرف النظر عن الأدوات المستخدمة. لجأت الإدارة الجديدة إلى مبدأ «التكتُّل» لحشد الحلفاء، معتمدةً خطاباً أساسه «القيم الديموقراطية والحريات العامة»، وهو مبدأ يُعدُّ من «مميّزات» الإدارات الديموقراطية. استناداً إلى ذلك، بدأت إدارة بايدن العمل على إعادة صياغة تحالفات الولايات المتحدة (من شرق آسيا إلى أوروبا) التي صدأت في عهد دونالد ترامب. فعُقدَت قِممٌ مع كلٍّ من اليابان وكوريا الجنوبية والهند وأوستراليا والاتحاد الأوروبي، كانت الصين عنوانها العريض. بعدها، أُطلقت حملة عقوبات واسعة ومتناغمة تستهدف بكين، تحت عنوان «حقوق الإنسان والديموقراطية»، وذلك ارتكازاً على قضيّة مسلمي الإيغور في شينجيانغ شمال غرب الصين (تقع عاصمتها أورومتشي على الفرع الرئيسي لمبادرة الحزام والطريق التي تحاربها واشنطن بكلّ قوّتها).

تعي واشنطن المكانة الاقتصادية لبكين في العالم؛ فالدولة التي كانت معزولة وفقيرة قبل سبعين سنة، تمكَّنت بعد تَسلُّم «الحزب الشيوعي» مقاليد الحكم فيها، من النهوض وإحداث «معجزة اقتصادية»، من خلال الارتكاز على سلسلة من الإصلاحات أدّت أخيراً إلى إخراج الملايين من دائرة الفقر، وصعود اقتصادها ليصبح الثاني عالمياً. أصبحت بكين، اليوم، شريكاً تجارياً مهمّاً لعدد كبير من الدول الغربية، بما فيها تلك الحليفة لأميركا؛ وهو ما يجعل معادلة «العداء المطلق لبكين» صعبة التحقُّق. فأوروبا مثلاً، التي تحتّل الصين مركز الشريك التجاري الأوّل لها، وفي الوقت نفسه تقع في صلب استراتيجية بايدن لمقارعة بكين، تبدو متّجهة نحو الحفاظ على علاقات متوازنة مع كلا البلدين، وذلك بالنظر إلى المصالح الكبرى التي تجمعها بهما. ففي حين يتبنّى الأوروبيون خطاباً يتماشى مع الخطاب الأميركي، وخصوصاً في ما يتعلّق بحقوق الإنسان ــــ وهو ما تَمثَّل بفرض بروكسل عقوبات رمزية على مسؤولين صينيين أخيراً ــــ، إلّا أن التكتُّل يواصل تطوير علاقاته الاقتصادية مع بكين بالشكل الذي يخدم مصالحه. وفي هذا السياق، يشير الصحافي مايكل شومان، في مقالة له في موقع «بوليتيكو» الأميركي، إلى أن كلّاً من الصين والولايات المتحدة تسعيان إلى جذب أوروبا بقوّة أكبر من أيّ وقت مضى. وتجلّى ذلك من خلال إعلان بايدن عزمه على تجديد التحالفات التقليدية لبلاده للوقوف في وجه صعود الصين، وفي قرار الحكومة الصينية، قبل ثلاثة أسابيع من تنصيب بايدن، وضع اللمسات الأخيرة على اتفاقية الاستثمار مع الاتحاد الأوروبي. وهي خطوة أثارت الدهشة في واشنطن، إذ سارع على إثرها جايك سوليفان (لم يكن حينها مستشاراً للأمن القومي) إلى إعلان ترحيب «إدارة بايدن ـــ هاريس بالمشاورات المبكرة مع شركائنا الأوروبيين في شأن مخاوفنا المشتركة من الممارسات الاقتصادية للصين». وعلى رغم أنه لم يكن قادراً على التفاعل رسمياً مع الاتحاد أو الحكومات الأوروبية قبل تولّيه منصبه، بدا واضحاً حرص فريق بايدن على عدم تفويت إرسال الإشارات اللازمة لاستمالة الأوروبيين.

ويبدو أن الاختيار بين الولايات المتحدة أو الصين مستحيل بالنظر إلى الالتزام التاريخي للأوروبيين تجاه واشنطن وما يُسمّى بالقيم المشتركة على ضفتَي شمالي الأطلسي، في مقابل إغراءات بثروات جديدة من قوّة اقتصادية صاعدة يمكن أن تضمن مستقبلهم الاقتصادي. بمعنى آخر، هو اختيار بين المبادئ والأرباح. ووفق شومان، هذه المقاربة خاطئة، إذ إن الاختيار سيكون بين مصالح طويلة الأجل وأخرى قصيرة الأجل. فمَن يؤمِّن لأوروبا مصالح طويلة الأمد، ستميل الكفّة إليه. ويلفت الكاتب إلى أن استمالة الأوروبيين ليست سهلة، وخصوصاً بالنظر إلى رؤية ألمانيا وفرنسا أخيراً حول أوروبا «مستقلّة استراتيجياً»، الأمر الذي سيجعل التعاون عبر الأطلسي «تَحدِّياً لبايدن».الحالة الأوروبية تنسحب بدرجة أقلّ على حلفاء الولايات المتحدة الأصغر أمثال أوستراليا ونيوزيلندا. هذان البلدان اللذان يبدوان متأخّرَين عن الأجندة الأميركية، اكتفيا، حتى الآن، بالتنديد بـ»ممارسات» الصين في شينجيانغ. وفي حين أن أوستراليا تُظهر، منذ العقد الماضي، إصراراً لجهة البقاء على مقربة من الولايات المتحدة، فهي تدرك أن فاتورة مواجهة الصين ستكون مكلفة. فمعضلة كانبيرا تتمحور حول كيفية موازنة العلاقات مع أكبر عميل اقتصادي لها، إلى جانب حاجتها إلى إرساء توازن إقليمي يضمن أمنها. في هذا السياق، يرى الباحث في «معهد الأبحاث الآسيوية» في جامعة سنغافورة الوطنية، كيشور محبوباني، أن التحالف الرباعي الذي تقوده واشنطن مع اليابان وأوستراليا والهند ضدّ الصين، «مصيره الفشل»، مرجعاً ذلك إلى سببين: الأوّل، هو أن لدى الدول الأربع مصالح ونقاط ضعف جيوسياسية مختلفة. أمّا الثاني، والأهم، فهو أن اللعبة الاستراتيجية في آسيا ليست عسكرية، بل اقتصادية. ويضيف محبوباني، في مقالة له في مجلة «فورين بوليسي» الأميركية، إن أوستراليا «هي الأكثر عرضة للخطر»، إذ يعتمد اقتصادها بشكل كبير على الصين. فكانبيرا تفخر بثلاثة عقود من النمو الخالي من الركود، فقط لأنها أصبحت «وظيفيّاً مقاطعة اقتصادية في الصين». ومن هذا المنطلق، تتالت دعوات ساسة أوستراليين إلى الحكومة المحافِظة لتهدئة الأمور مع بكين، ومنهم وزيرة الخارجية السابقة جولي بيشوب، التي رأت الأسبوع الماضي أنه سيكون من غير الحكمة «الإساءة إلى أكبر عملائنا بلا داعٍ». أما بالنسبة إلى اليابان، فيؤكّد الكاتب أن هناك «تقارباً» يظهر مع الصين، في حين أن «الهند شدَّدت بوضوح على موقفها تجاه بكين، ومن غير المرجَّح أن تصبح حليفاً واضحاً لواشنطن». ووفق محبوباني، فإنه بمرور الوقت، ستؤسِّس المصالح الاقتصادية ونقاط الضعف التاريخية للبلدان الأربعة «لقابلية أقلّ للدفاع» عن أهداف التحالف.
Exit mobile version