لم تعد روسيا قادرة على “تحمل” سياسات حليفها السوري الرئيس بشار الأسد في مجال إنهاء الصراع الأبدي في بلاده. هي باتت منذ فترة طويلة تعتقد أن إنجازات تدخلها العسكري في سبتمبر (أيلول) 2015، لإنقاذ النظام في دمشق، يجب أن تُترجم إلى تسوية سياسية، تكون فيها اللاعب الأكبر وتتيح لها قطف ثمار انخراطها في معركة بلاد الشام.
الإشارات إلى عدم رضى موسكو عن حليفها الدمشقي كثيرة. أخيراً، أُصيب الأسد وزوجته بـ “كوفيد-19″، فلم يتصل به الرئيس فلاديمير بوتين. لم يكن الاتصال ضرورياً وهو لا يحتاج إلى حديث عنه إذا ما حصل، لكن موسكو حرصت على الإعلان بلسان المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف أن أي اتصال بين بوتين والأسد لم يحصل في المناسبة، إلا أن المسألة تتعدى الاطمئنان الصحي، فكثير من القضايا والتطورات خلال الشهر الماضي كانت تفترض تشاوراً بين الحليفين. من التوتر الشديد في إدلب ومحيطها بين النظام والقوات التركية، ووصلت مفاعيله إلى العلاقات الروسية – التركية، إلى جولة وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف التي شملت السعودية والإمارات وقطر وتناولت خصوصاً الوضع السوري، إلى الإعلان عن منصة تعاون جديدة في شأن سوريا تضم روسيا وقطر وتركيا، فإلى زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي غابي أشكينازي إلى موسكو التي تزامنت مع زيارة وفد حزب الله اللبناني، الذي ألحّ على معرفة مصير الأسد بحسب الصحافة الروسية.
كل تلك التطورات كانت تستحق اتصالاً على أعلى المستويات بين دمشق وموسكو، لكن شيئاً من ذلك لم يحصل، بل تم قطع الطريق عليه رسمياً، فيما كان وزير خارجية الأسد يتوجه إلى مسقط بدلاً من الكرملين في ثاني زياراته الخارجية بعد طهران.
لا يعني ذلك أن الانخراط الروسي في سوريا في حال تراجع، أو أن العلاقات مع النظام تشهد خللاً مميتاً، فروسيا حصلت عبر إحدى شركاتها، منذ أيام، على امتياز للتنقيب عن الغاز في البحر السوري في الحلقة الأخيرة من التعاون المشترك، لكن موسكو تعتقد أن أوان التسوية السورية قد حان، وهي الآن في أفضل الظروف التي تسمح لها بقطف هذه التسوية ورعايتها.
وتعرف روسيا أن سوريا ممزقة وموزعة على دول عدة تمسك بأراضيها، فالجولان تحتله إسرائيل منذ 1967، والمنطقة الشرقية الشمالية التي تحوي 90 في المئة من إنتاج النفط السوري تحت سيطرة الأميركيين وحلفائهم الأكراد، وفي الغرب والشمال الغربي تحكم تركيا سيطرتها على إدلب والشريط الحدودي الشمالي، وحيث المناطق المحسوبة على النظام تنشط إيران وميليشياتها، لكن النظام وإيران يعرفان أن القوة الجوية الروسية هي العامل الحاسم في استمرارهما.
وللتقدم في تسوية مُرضية، على روسيا التعامل مع كل هؤلاء، والأخذ في عين الاعتبار مطالب المعارضة السورية وقرارات الأمم المتحدة، خصوصاً قرار مجلس الأمن رقم (2254) وبيان جنيف، إلا أنها تعرف أيضاً أنه لا بد من تعاون الأسد نفسه، الذي تتمسك روسيا بشرعيته، وتعتبره إيران ضمانة لدورها وحضور ميليشياتها، وتصر تركيا على إزاحته.
في اتجاه ضمان تعاون الأسد ستتحرك روسيا خلال الفترة المقبلة، وبحسب إحدى الصحف الروسية “يجدر بالجانب الروسي باعتباره أحد أهم الضامنين للتسوية، أن يعزز تحكمه بحسابات دمشق الرسمية الخاطئة، التي أدت إلى اندلاع الاحتجاجات المناهضة للحكومة قبل 10 سنوات، بحيث لا تكررها دمشق مرة أخرى”.
وتقول صحيفة “نيزا فيسامايا” الروسية في مقالة، 23 مارس (آذار)، “تبدو لحظة إيجابية أن الجانب الروسي تمكن خلال هذا الوقت من تعزيز سمعته كلاعب يعرف كيف يبني علاقات متوازنة مع جميع دول المنطقة، وتجد الدليل على ذلك ليس في استضافة موسكو، الأسبوع الماضي، وفي وقت متقارب، وفداً من حزب الله اللبناني ووزير الخارجية الإسرائيلي غابي أشكينازي، إنما وفي الجولة العربية الأخيرة لوزير الخارجية الروسي، وللمفارقة فقد أظهرت هذه الجولة تقارب مواقف قيادتي السعودية والإمارات مع روسيا في شأن الملف السوري”.
وجدت موسكو كما تقول دفعاً جديداً لرؤيتها في هذه الجولة العربية الخليجية، وهي في علاقتها المتوترة حالياً مع الولايات المتحدة قد تغتنم الفرصة لتسجيل خرق يشبه ذلك الذي حققته في سبتمبر 2015 عندما اقتحمت المشهد السوري برضى أميركي ضمني، والخرق الحالي المفترض تتشابه ظروفه مع ظروف 2015، والعلاقة الملتبسة مع الرئيس باراك أوباما قبل تسليمه السلطة إلى رئيس أكثر التباساً في علاقته مع روسيا.
الآن تعتبر روسيا نفسها في حال صدام مع أميركا برئاسة جو بايدن الذي وصف الرئيس الروسي بـ “القاتل”، ولذلك سترفض أي نقاش مع بايدن “إلا في العلن”.
ثانياً، ستفرح موسكو بقرارات بايدن الانسحاب من مواقع مختلفة في العالم، بما فيها من العلاقات مع بعض الحلفاء، و”ستساعده في ذلك”.
وثالثاً قد تغتنم موسكو الفرصة لتسجيل أهداف في بعض النقاط، خصوصاً في سوريا، لكن ذلك سيكون صعباً من دون اتفاق مع أميركا.
تبدو إسرائيل الحليف الرئيس لروسيا على الأرض السورية، فهي الطرف العسكري الحاضر جواً وبراً، وهي التي كسبت ثقة روسيا طوال أعوام من العمل المشترك في سوريا، وسيكون للدولة العبرية دور أساس في رسم حدود التلاقي الأميركي- الروسي في سوريا، وهذا سيحتاج إلى جهود تبذل للفصل بين بلاد الشام ومسائل أخرى تثير خشية الروس مثل أوكرانيا، لكن الثابت أن روسيا التي تعيش هاجس ليبيا لن تقبل أن تطير سوريا من يدها هذه المرة.