الشخصية الوطنية للأقطار العربية

تتميز شعوب الأمة العربية بدرجة من التنوع ونمط من التعددية يعطيها فرادة وتألقاً، إذ يكفي أن تتحدث مع عراقي ثم تستمع إلى مغربي فيتدخل المصري بأمزوحة ساخرة، لتشعر بتلك التعددية وذلك التنوع، ثم ترى ابن شمال أفريقيا بـ”الجلباب” و”الزعبوط” وابن الخليج بـ”الغترة” و”العقال”، لكي تدرك تأثير التنوع البيئي وتميز الأنماط الثقافية بين أبناء الأمة الواحدة، ولا ينتقص ذلك بالطبع من الدرجة العالية للانصهار القومي والفهم المشترك، على الرغم من الاختلاف في التفاصيل والتعدد في المظاهر، سواء في اللهجات أو الأزياء أو الأطعمة، ولقد سمعت أحد علماء الاجتماع العرب يقول، “إن كل ما هو شرق الإسكندرية ينتمي إلى حضارة الأرز، وكل ما هو غربها ينتمي إلى حضارة الكُسكس”. وقد يكون ذلك صحيحاً في مجمله، ولكن من دون تحديد قاطع، فالعربي من كل قُطر يستسيغ الطعام من مطابخ القطر الآخر ويلتقط اللهجات بأذن ذكية، حتى أن اليمني والسوري والسوداني والجزائري يمكن أن يضحكوا لنكتة مصرية واحدة، والغريب في أمر أمتنا أنها تملك إرثاً حضارياً كبيراً، وتحمل على كاهلها تجارب ثرية من تراكم الحضارات وتداخل الثقافات وممارسة الأديان الإبراهيمية الثلاثة، مع اعترافنا بشيوع الإسلام في المشرق والمغرب أكثر من أعداد المسيحيين العرب، الذين يشكلون ظاهرة ثمينة في الصف العربي كله، فضلاً عن بؤر يهودية قليلة تبدو قريبة من مفهوم العروبة بمنطق التاريخ والجغرافيا، كما تبدو بعيدة من العقيدة الصهيونية بحكم الانتماء القومي، واستهجان التوجهات العنصرية السائدة في عصرنا. ولقد أغراني بالكتابة في هذا الموضوع ما شهدته دائماً في أروقة العمل العربي المشترك وعلى شاشات السينما وخشبات المسرح، فضلاً عن ذلك العدد الكبير من محطات التلفزيون الفضائية، التي أصبحت تغطي الاتجاهات كافة وترضي كل الأذواق، ولا شك أن ذلك التنوع وتلك التعددية هما نعمة للعرب وليسا نقمة عليهم، فلقد أثبتت الدراسات الحديثة أن التنوع والاختلاف يمثلان قاطرة تشدّ الأمم نحو المستقبل وتدفع الشعوب إلى الأمام، وإذا أردنا أن نقسّم الوطن العربي إلى أقاليم ثقافية، فسنجد أن درجة الانصهار والانسجام تحول من دون ذلك، ولكن الأمر لا يمنع في الوقت ذاته من الإحساس بدرجة عالية من التألق القومي نتيجة تلك الاختلافات، حتى ولو كانت في التفاصيل وحدها، وتلك الأقاليم نستعرضها في إيجاز على النحو التالي:

أولاً، تشمل المنطقة العربية أقاليم مختلفة ما بين نهرية Cult of River وأخرى صحراوية Cult of Desert ، وفي الحالتين فإنها تملك تعددية في الجغرافيا الطبيعية ليست متاحة لمناطق أخرى في العالم، وبذلك جمعت الدول العربية المختلفة بين حضارة المدينة وحضارة البادية، وتمكنت في النهاية من استخراج توليفة مميزة صنعت رونقاً خاصاً لدول عدة في العالم العربي، لذلك فإن التعددية بمعناها العام لا تنسحب على الاختلافات الثقافية أو العرقية، ولكنها تنصرف أساساً إلى التميز الطبيعي بين دول المنطقة.

ثانياً، لكل إقليم في العالم العربي طابعه الخاص، فمصر بالقلب تتوسط الجناحين المشرق والمغرب، بينما إقليم الشام الكبير يقدم نموذجاً مختلفاً تداخلت فيه التأثيرات التركية بل والبحر المتوسطية مع تأثيرات عروبية قادمة من الجزيرة العربية والتخوم الآسيوية، خصوصاً بلاد فارس وما جاورها، لذا فإن المزيج السكاني أعطى سوريا الكبرى أو الشام الكبير شخصية متفردة، تبدأ من نوعية الطعام المستمد من المطعم التركي، وصولاً إلى الطرب الذي دخل إليها من حلب غرباً وموصل العراق شرقاً، فأصبح الشام مستقراً للفنون والآداب والأشعار والأذكار، ثم انتقلت الهجرة الثقافية من الشام إلى مصر فازدهرت الآداب وارتقى المسرح وتطورت الموسيقى، ثم ظهرت السينما بحكم ذلك التزاوج الفكري والثقافي الذي شمل المنطقة بأسرها، وجعل مصر مستقراً للتنوير المنطلق منها أو القادم إليها، وتشابه الطرب العربي في المنطقة كلها بدءاً من القدود الحلبية مروراً بالطقاطيق المصرية، ثم ظهرت في لبنان بتألقها الواضح وأناقتها المتفردة، لذلك فإن العالم العربي يعرف التنوع من كل مصادره.

ثالثاً، ينفرد الخليج امتداداً للجزيرة العربية بسمات خاصة مستمدة من تاريخ العروبة والقبائل الكبرى والعشائر المنتشرة، التي جعلت تلك المنطقة مميزة بروح العروبة الخالصة، منذ أن ظهرت دولة الغساسنة كحاجز بين الجزيرة العربية والشام، ودولة المناذرة كحاجز على الجانب الآخر بين العرب والفرس، وفي كل الحالات فإن العروبة الخالصة التي تتميز بها معظم القبائل والأفخاذ تمثل في مجموعها سبيكة خاصة تجمعها قاعدة من التشابك الذي تنفرد به عن غيرها، بحيث تتميز بدرجة من التجانس الذي تجسد في مجلس التعاون الخليجي. ولا يخفَ على أحد أن ظهور النفط في الجزيرة والخليج قد أضاف إليهما دوراً دولياً كبيراً، وجعلهما في الوقت ذاته محط أنظار ومركز أطماع من القوى الكبرى، ولكن تلك الدول المميزة اقتصادياً استطاعت أن تحافظ على وجودها على الرغم من كل التحديات والمواجهات والأزمات.

رابعاً، لا يمكن أن نتحدث عن قلب العالم العربي متجاهلين الشخصية ذات الخصوصية لدولتي حوض النيل مصر والسودان، وكيف ارتبط تاريخهما المشترك عبر السنين، بحيث ازدهرت بهما الثقافات واتصفت بدرجة عالية من الانصهار السكاني والتناغم الاجتماعي، وعلى الرغم من “الأسافين” التي دقتها بريطانيا بين مصر والسودان، إلا أن التماسك بينهما جعل وحدة وادي النيل حقيقة سكانية لازالت صامدة على الرغم من كل الظروف المعادية من اتجاهات متعددة، وظل ذلك الإقليم معبراً بين العروبة والأفريقية، وأصبح مزيج سكانه نمطاً مشتركاً من الاثنين معاً، وهنا يجب ألا نتجاهل حقيقة أن ثلثي العرب يعيشون في القارة الأفريقية، ولا شك في أن التداخل بين الأفارقة والعرب قد ترك بصماته على السكان، لا في وادي النيل وحده، ولكن في شمال أفريقيا أيضاً حيث الارتباط القوي بين الدول العربية في الشمال ودول غرب القارة لأسباب تاريخية وثقافية، فضلاً عن تداخلات متبادلة بين الجانبين.

خامساً، إن دول المغرب العربي بتجانسها الواضح وتاريخها المشترك، وتعرضها للوجود الأجنبي خصوصاً الفرنسي ثم الإسباني والإيطالي في تلك الدول المميزة المطلة على الساحل الجنوبي للبحر المتوسط، وهي المعروفة بتداخل ثقافي من نوع آخر يربط بين الفرنسية في جانب والثقافة العربية في جانب آخر، حتى أننا أحياناً ندهش للهجة المشتركة بين الثقافتين، وهي دول شديدة المراس بتكوينها، كما أنها تتمتع بدرجة من التنوع الرائع.

وعلى الرغم من أن المغرب والجزائر وتونس ومعهما ليبيا وموريتانيا تشكل معاً ما يعرف بالاتحاد المغاربي، إلا أن الخصوصية الذاتية لكل دولة تعطيها مذاقاً خاصاً، بل إنني أضيف إلى ذلك أن دولة مثل المغرب تملك عدداً من المدن كالرباط ومراكش ومكناس والدار البيضاء وطنجة وفاس وغيرها، وكل منها له طابع خاص، لذلك ارتبطت تلك المنطقة بأوروبا حيث المسافة قصيرة نسبياً، بل إنني أتذكر أنني كنت ذات يوم في طنجة على الساحل المغربي، وكنت ألمح على الجانب الآخر، ولو بصعوبة، الشاطئ الأوروبي، ولا زالت هناك جيوب إسبانية داخل المغرب في “سبتة” و”مليلية”، وبذلك نجد أن التنوع في منطقة شمال أفريقيا يعطي مذاقاً خاصاً لدول تلك المنطقة، ويجعلها بحق الجناح الغربي للأمة العربية.

هذه هي أمتنا بتنوعها وتعدديتها وفرادتها في آن واحد، فهي مستودع ثقافي لكل من أراد أن يدرس الجغرافيا السياسية بل والاقتصادية أيضاً، لذلك فإننا لا نغالي عندما نتحدث عن الشخصية الوطنية للأقطار العربية.

المصدر: اندبندنت 

Exit mobile version