تفتحتُ على الدنيا في حارة حريك، وكان يخيِّم عليها التوجُّس والقلق والخوف من الفلسطينيين، فينكِّد هبوب سُحُبها على حياة أهلها وسكانها -المسيحيين على وجه الخصوص والتحديد- من مخيم برج البراجنة الفلسطيني على تخومها الجنوبية، هناك حيث كان بيت عمتي القديم والمنفرد وسط بستانها الكبير.
لكن لماذا كان المسيحيون يتوجسون ويخافون من الفلسطينيين؟
بعد مرور سنوات كثيرة على تهجيرنا من حارة حريك سنة 1976، قرأت وسمعت أخبارًا وروايات كثيرة وسّعت إدراكي لتجربتي الحياتية المريرة، وفهمتُ منها ما يمكنني تسميته: “مركب الكراهية والرعب العصابي” المسيحي اللبناني من الفلسطينيين المسلمين. وهو مركب شديد التعقيد، وصلته حميمة بتاريخ لبنان السياسي والاجتماعي، وبعلاقات القوة بين مسيحييه بمسلميه، وتخترقه عوامل وحساسيات طبقية وديموغرافية، دينية وطائفية، تمازجها مشاعر عنصرية بدائية متبادلة بين الجماعات وسردياتها لأصولها وهوياتها وتواريخها.
فمنذ لجوئهم إلى لبنان سنة 1948، كان فلسطينيو المخيمات قد عاشوا في ما يشبه غيتوات بائسة، فقراء محاصرين، مختنقين مهمشين وغير مرئيين تقريبًا، إلا كأيدي عاملة رخيصة، ومحتقرة أحيانًا. لكن حالهم هذه تبدلت تمامًا منذ ظهور منظماتهم المسلحة في مخيماتهم الكثيرة المنتشرة بلبنان، رافعة شعار تحرير فلسطين والأمة العربية. وحدث ذلك وسط التماع بريق صورة الفدائي الفلسطيني الشبحيّة، شبه الأسطورية أو الخرافية الساحرة والخارقة في وجدان المسلمين اللبنانيين العروبيين، متداركين بها خذلانهم وضياعهم وتيههم غداة هزيمة جيوش الدول العربية في حرب 5 حزيران 1967. وهذا بالضبط ما أقلق المسيحيين اللبنانيين وأخافهم على مصيرهم، ومصير بلدهم ودولتهم الوطنية وأمنها واستقرارها. فالمسيحيون، على خلاف المسلمين، لم يكترثوا بتلك الهزيمة. بل إن بعض زعمائهم وجمهورهم شمتوا بالعرب المسلمين، وأثلجت هزيمتهم صدورهم. فكتموا سرورهم بها ثأرًا من موالاة المسلمين زعامة عبد الناصر القومية العروبية، ومن انجرافهم في تيارها الجماهيري الصاخب منذ العام 1956، وانسحارهم بخطابة الزعيم الخالد وبالوحدة المصرية السورية الناصرية التي ألهبت توقهم إلى إلحاق لبنان بركبها. وهذا ما أخاف المسيحيين، بل أرعبهم وأدى إلى شقاق 1958 الإسلامي – المسيحي وحوادثه الدامية في لبنان.
واستفاق القلق والخوف المسيحيان غداة بروز الفدائيين الفلسطينيين بعيد هزيمة حزيران 1967، ثم تضاعفا لمّا انسحر وهام المسلمون اللبنانيون بالفدائيين وسلاحهم العروبي وشهدائهم، نكايةً بالدولة والجيش اللبنانيين. وسرعان ما اتخذ قلق المسيحيين وخوفهم طابعًا ماديًا ووجوديًا مباشرًا في تجمعاتهم السكانية القريبة من المخيمات الفلسطينية والمتاخمة لها.
وهذه كانت حال أهالي حارة حريك الذين أشعرهم المسلحون الفلسطينيون في مخيم برج البراجنة القريب بتهديد أمنهم ووجودهم المادي، فوق شعورهم بأن القوة الفلسطينية المسلحة وتماهي جيرانهم المسلمين بها وانتصارهم لها، تمزق نسيج مجتمعهم البلدي بوتيرة متسارعة.
ولا شك في أن والدي، المولود وجدي قبله في الحارة، أخذه القلق والخوف، كسواه من أهلها المسيحيين، منذ نشوء مخيم اللاجئين الفلسطينيين سنة 1948 في برج البراجنة. لكنني لا أدري إن كان زمن الستينات اللبناني السعيد، في عهد فؤاد شهاب وبعد شقاق 1958، قد أنساه ذينك القلق والخوف، أم أن يتمه، انطواءه وقلة مخالطته الناس، وطبعه المسالم الكتوم، حملته على كتمانهما ومواراتهما في نفسه، فلم ينقلهما إلينا، أختي وأنا، ولا حدّثنا عنهما قط في طفولتنا.
طبعًا مسَّ والدي ووالدتي ذلك الخوف، الداهم والمسموم، الذي أصاب السكان المسيحيين بعد 1967، أكثر بكثير من جيرانهم الشيعة. لكن استكانته وحسن طويته ومسالمته وغلبتها على نظرته إلى الناس والدنيا من حوله، حملته على التعايش مع خوفه ومواراته بعيدًا في نفسه. فهو لم يكن يتخيل لحياته موطنًا ومكانًا سوى في بلدته الساحلية التي ولد فيها وأهله من قبله. وربما لم يكن يتخيل كسواه من أهلها أن الحوادث الداهمة فيها ستشتد وتقوى على تمزيق وئام العيش فيها ونسيجه الاجتماعي، وتشتت مسيحييها تشتيتًا مريرًا.
وها أزيز الطائرات، دوي رصاص المضادات الأرضية، زعيق صفارات الإنذار، وهبوطنا مسرعين إلى الملاجئ، بدأت تقطع إيقاع حياتنا وتبتره فجأة في أوقات كثيرة. بل هي عرّضت للخوف والخطر سكينة حياتنا الأسرية وطمأنينتها في طفولتي، ليس في البيت وحده، بل أثناء انتقالي بين بيتنا في الحارة ومدرستي في شارع بدارو. ولا أزال أذكر مشهداً للطائرات محلِّقة في الجو فوقنا، نحن التلامذة الواقفين في ملعب مدرسة سيدة الملائكة في بدارو، فقيل لنا إنها تقصف في صبرا وشاتيلا. ولأن رصاصات المضادات الأرضية المنطلقة نحو الطائرات، كانت تسقط أحياناً في جهات بدارو، حيت تكثر ثكنات الجيش اللبناني ومؤسساته، راحت إدارة مدرستنا تسارع في إدخالنا إلى قاعات الدرس، لئلا تصيبنا الرصاصات المتساقطة في حال بقائنا في الملعب. وهذا ما حدث، قبل تعطيل الدروس أيامًا في مدرستنا أثناء اشتباكات الجيش اللبناني والفدائيين الفلسطينيين في أيار 1973.
قبل ذلك كله كان أبي يصطحبنا في سيارته في نزهات على طريق المطار، فرأينا مرة جماعة من الفدائيين الفلسطينيين يتدربون على تخوم مخيمهم في برج البراجنة. ولا أزال أذكر مشهدهم يمتشقون البنادق الحربية، ويقفزون فوق حبل تحته نيران مشتعلة في فسحة رملية. والآن أقول: يا لسذاجتنا حين وقفنا، والدي وأمي وأختي وأنا، نتفرج عليهم مبهورين بما لم نره قط من قبل، غير مدركين أن ما يقومون به سيؤدي إلى تسميم حياتنا.
ظهور حزب الكتائب
أمي الرقيقة القلب -وهي كانت تبكيها صور الناس الجائعين في بيافرا إذا ما شاهدتها في نشرات الأخبار التلفزيونية- راحت تخرج من بيتنا إلى ناصية الشارع، وتنتظر بصبرها ومنتهى خوفها عودتي وأختي من المدرسة، كلما سمعتْ أزيز طائرة ومضادات أرضية؛ وكلما حصل إطلاق نار في المخيم الفلسطيني وعلى تخوم الحارة، وكلما علمتْ أن استنفارًا حصل هناك أو قد يحصل. وحين كان الجيران يرونها واقفة على ناصية الشارع، قلقة مضطربة، صاروا يعلمون أن شيئًا ما مقلقًا قد حدث أو في طريقه إلى الحدوث. فهي كانت تعلم أن أوتوكار مدرستنا في بدارو يمر في أحياء الشياح والغبيري وشاتيلا وبرج البراجنة، ليوصل تلامذة إلى بيوتهم في هذه الأحياء، قبل بلوغه حارة حريك. ذلك أن نحو 70 في المئة من تلامذة مدرسة سيدة الملائكة في بدارو، كانوا من العائلات والأسر المسلمة المحلية والوافدة، مثل سليم وكنج وحاطوم وسوبرة وغلاييني ودبوق، وسواها الكثير.
ومرة كنت ورفيق لي من آل حاطوم في أوتوكار المدرسة، حينما رأينا مسلحين فلسطينيين مستنفرين بين المخيم وحارة حريك. كانوا ملثمين ويحملون بنادقهم الرشاشة، حذرين متربصين. وما أن نزلنا -أختي وأنا- من الأوتوكار قرب بيتنا، حتى سمعنا أزيز الرصاص. وكانت أمي واقفة بقلقها المعتاد على ناصية الشارع، منتظرة وصولنا، فقلت لها: لقد رأيتهم قبل قليل يتقافزون بأسلحتهم من مكان إلى آخر. وفي المساء علمنا أن الاستنفار والاشتباك حصلا بين منظمات فلسطينية كثيراً ما كانت تشتبك في المخيم وعلى تخومه، قبل تمدُّد استنفاراتها واشتباكاتها إلى نواحي حارة حريك، التي راحت تشتد وتائر خوف سكانها ممزوجًا بالتذمر والسخط والغضب والحقد.
وفي أعقاب تواتر مثل هذه الحوادث وتكاثرها، دبت الحياة في مقر حزب الكتائب اللبنانية الذي غالباً ما كنت أراه، قبل ذلك، مقفل الأبواب والنوافذ في الطبقة الأولى من المبنى القديم فوق استديو المصور الفوتوغرافي، قرب بيتنا. وسرعان صار الشيخ بيار الجميل، زعيم الكتائب، يزور مركز حزبه، فنرى الكتائبيين الذين كانوا قلة، يتراكضون للاصطفاف أمام المقر، فيستقبلونه ويؤدون له التحية العسكرية الحزبية. ومن بين هؤلاء شقيق المرأة التي من آل الشويفاتي، وقد تكون أمها حلبية الأصل، وتزوجت الخياط المسيحي الذي وفد من حلب وأقام في حيّنا. وكان شقيق المرأة سائق سيارة تاكسي، شرس الطبع، وخطف امرأة من عين الرمانة وتزوجها، فلم تعش معه أكثر من أسبوع واحد، اختتمته بهربها وعودتها إلى أهلها.
1969: حادثة الكحالة
لا أذكر إلا كمنام ما حدث في تلك الليلة من شتاء 1969، عندما كنت في الرابعة من عمري، لمّا اقتحمت مجموعات من الفدائيين الفلسطينيين حارة حريك، رداً منهم على حادثة الكحالة الشهيرة. لكن ما سمعته وقرأته لاحقًا من روايات كثيرة عن ذلك الاقتحام وعن الحادثة التي سبقته في الكحالة بيوم واحد، وتسببت به، مكنني من تلخيص الحادثتين على النحو التالي: قبل “اتفاق القاهرة” الشهير في تشرين الثاني 1969 (وقيل آنذاك إنه أُبرم “لتنظيم علاقة المنظمات الفلسطينية المسلحة في لبنان بالسلطات اللبنانية الرسمية”، لكن الرأي العام المسيحي اللبناني، لم يرَ فيه سوى استباحة للدولة اللبنانية وتخلِّيها عن سلطاتها وقرارها المستقل، وإذعانها لإرادة السلاح الفلسطيني) تكرر في بلدة الكحالة المسيحية مرور مواكب تشييع فدائيين فلسطينيين، متجهة من بيروت إلى دمشق، لدفنهم في سوريا حيث يقيم أهلهم. وكان يحدث ذلك بعد مقتلهم أثناء رد الجيش الإسرائيلي على عمليات الفدائيين في جنوب لبنان. وغالبًا ما كانت مواكب التشييع تطلق الرصاص العشوائي، غضبًا واحتفالًا ونكاية بأهالي الكحالة، فيشتعل غيظهم وغضبهم من الفلسطينيين وحقدهم عليهم.
وقتل رصاص عشوائي أُطلق في موكب تشييع فدائي عابر في الكحالة، امرأة من نسائها. ولمّا عبر بعد مدة موكب مماثل في البلدة المسيحية إياها، كان بعض مسلحيها قد كمنوا على سطح مبنىً فيها، وأطلقوا رصاص ثأرهم وأحقادهم على موكب التشييع العابر، فسقط من المشييعين عدد من القتلى والجرحى. وربما في ليلة النهار الذي تلا تلك الحادثة، شن فدائيون فلسطينيون هجومًا مسلحًا على حارة حريك ثأراً لقتلاهم في الكحالة، فأسفر عن سقوط ستة قتلى و18 جريحاً من أهالي الحارة، من غير أن يصاب أي من المهاجمين الذين استمر هجومهم حتى ظهيرة النهار التالي، وخلفوا وراءهم على بعض جدران منازل الحارة الشعارات الآتية: “50 شاباً سقطوا في الكحالة برصاص العمالة والخيانة”، و”جريمة الكحالة لن تمر دون عقاب”، و”أنتم البادئون في الكحالة ونحن نثأر لشهدائنا”.
ونقلاً عن صحف تلك الأيام، قرأت هذه الشعارات في كتاب لأحد أبناء برج البراجنة، فيصل جلول، عنوانه “نقد السلاح الفلسطيني، برج البراجنة أهلاً وثورة ومخيماً”. وأسفر عن الهجوم الثأري على حارة حريك، نزوح بعض أهلها المسيحيين، تاركين بيوتهم فيها على نحو تدريجي. فأقاموا في أحياء الضواحي المسيحية شبه الصافية والمتجانسة طائفياً، كالحدث القريبة بلدتهم. وهناك تكاثف انتماء النازحين من أبناء الحارة إلى حزب الكتائب، طلباً للحماية والثأر. وكانت قد سبقت موجة النزوح هذه موجات أخرى، اتجه بعضها إلى منطقة كسروان، حيث اشترى بعض أهالي الحارة قطع أرض، فشيدوا عليها بيوتاً راحوا يصطافون فيها ويلجأون إليها كلما اضطرب الأمن وتوسع نفوذ السلاح الفلسطيني في بلدتهم، واشتد خوفهم على وجودهم ومصيرهم. يتبع