تجارب أوروبية
لا يُراد من هذه الإستعارة التقليل من شأن العقوبات الأوروبية المفروضة على أنظمة فاسدة وسياسيين لصوص، وعلى أنظمة قمعية وسياسيين ينتهكون حقوق الإنسان والقانون الدولي. فلا يمكن إنكار أهمية العقوبات الأوروبية التي تفرض على مسؤولين في بلد ما، بسبب تزوير الانتخابات الرئاسية وتعطيل المسارات السياسية الديموقراطية والقمع العنيف للتظاهرات الاحتجاجية وللمعارضة في هذا البلد، كما هو حال بيلاروسيا عام 2020. ولا يمكن تجاهل جدوى مشاركة الاتحاد الأوروبي في عقوبات فرضتها الأمم المتحدة على جمهورية أفريقيا الوسطى، عام 2013، مستهدفةً أشخاصاً وكيانات يهددون السلم والاستقرار والأمن ويعطلون مسار الانتقال السياسي أو يغذون العنف. كذلك الأمر بالنسبة لنيكاراغوا التي استهدفت العقوبات الأوروبية فيها عام 2019، كل من ساهم في قمع وسائل الإعلام المستقلة والمجتمع المدني، أو من استخدم قوانين مكافحة الإرهاب لقمع معارضين سياسيين. وتتعدد الحالات العقابية الماضية والحاضرة، والتي تتعلق بقائمة من الدول: بدءاً من ميانمار وفنزويلا وجمهورية الكونغو الديموقراطية وبوروندي وغينيا وغينياــ بيساو وزيمبابواي وجنوب السودان، مروراً بالعراق وليبيا وسوريا ومالي واليمن والصومال، وصولاً إلى الصين وروسيا وأوكرانيا وإيران وكوريا الشمالية.
مروحة الخيارات
بالطبع، كل هذه التجارب تفيد بأنه يمكن للاتحاد الأوروبي أن يفرض عقوبات على متورطين في القمع الوحشي الذي أدى إلى فقدان بعض الشبان المتظاهرين أعينهم، أو إلى إصابتهم بأضرار جسدية جسيمة في لبنان منذ تشرين الأول 2019. التدابير العقابية يمكن أن تشمل أيضاً مسؤولين عن محاكمات غير عادلة بحق متظاهرين، تُستخدم فيها، على غرار نيكاراغوا، قوانين الإرهاب زوراً وعن غير حق. وما الذي يمنع أوروبا من فرض عقوبات على المسؤولين عن تخزين نيترات الأمونيوم والمتقاعسين عن اتخاذ القرار اللازم لإتلاف هذه المواد الخطيرة، وذلك قبل تفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2020؟ وفي حال تعمّد حكام لبنان عدم الالتزام بالمهل الدستورية للاستحقاقات الانتخابية، الرئاسية والنيابية عام 2022، يمكن للاتحاد الأوروبي أن يفرض عقوبات عليهم.
أما في ما يتعلق بطبيعة العقوبات، فالتجارب تشير إلى مروحة من الخيارات. أبرزها يتضمن تجميد جميع أصول أشخاص وكيانات ومنع منحهم أي أموال أو أصول بشكل مباشر أو غير مباشر. ناهيك عن فرض قيود السفر عليهم. ثمة أيضاً حظر تصدير معدات قد تستخدم في القمع الداخلي (…)، وحظر تصدير الأسلحة وتقديم أي مساعدة وخدمات تقنية أو مالية ذات صلة. في هذا الصدد، لا بد من الإشارة إلى أن الاتحاد الأوروبي يشارك أصلاً في العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة على لبنان، لجهة منع تصدير أسلحة إليه، بعد حرب تموز 2006، وذلك من أجل المساهمة في مساعدة الدولة على بسط سلطتها وسيادتها على كامل أرضها، ولكي لا يكون هناك أي سلاح خارج سلطة الدولة.
مدى فعالية العقوبات
في كثير من الحالات إذاً، تعتبر العقوبات بمثابة واجب لا بد من الاضطلاع به، على الرغم من محدودية تأثيرها على الأنظمة الاستبدادية نسبياً. لكن ثمة تساؤل مشروع حول مدى فعالية أي عقوبات أوروبية محتملة على مسؤولين لبنانيين مفترضين، من خلال تجميد أصولهم في دول الاتحاد الأوروبي مثلاً. فما هي احتمالات النجاح، في الوقت الذي تعجز فيه أوروبا عن التصدي لمشكلة الجنات الضريبية وما تمثله من ملاذ للتهرب الضريبي في دولها الأعضاء؟
يسعى الاتحاد الأوروبي، من دون كلل، إلى تعزيز سياسات مكافحة التهرب الضريبي. لديه قائمة سوداء بما يسمى بـ”الجنات الضريبية” في العالم. لكن هناك مخاض أوروبي لتطوير هذه القائمة من أجل تعزيز فعالية الإجراءات والمراقبة ضد تلك البؤر التي تتيح للمتهربين من دفع الضرائب وللفاسدين ولمبيضي الأموال، إخفاء أموالهم وودائعهم المصرفية السرية. لا يتعلق الأمر فقط بكيانات من خارج أوروبا، مثل جزر البهاما أو جزر البرمودا والجزر العذراء البريطانية، بل أيضاً، بجنات ضريبية أوروبية، مثل هولندا ومالطا ولوكسمبورغ وإيرلندا وقبرص، بحسب انتقادات وجهها “الإتحاد الدولي للمنظمات الخيرية” (Oxfam) في تشرين الأول 2020، يتهم فيها الإتحاد الأوروبي بافتقاده للشجاعة السياسية اللازمة من أجل محاربة الجنات الضريبية. إذاً، كيف للاعب دولي كبير، بحجم أوروبا، يعاني من محدودية في مكافحة بؤر التهرب الضريبي وغسل الأموال، أن تكون تدابيره العقابية فعالة بحق متورطين في الإثراء غير المشروع في لبنان، خصوصاً أن هؤلاء قد يكونوا نقلوا أموالهم المنهوبة بطريقة يدوية، ووضعوها في أماكن “آمنة” توفرها لهم تلك الجنات الضريبية “المحمية”؟
تجربة تونس
سؤال نقدي آخر يفرض نفسه، وهو مستوحى من تجربة سابقة مع تونس. فمن أصل 32 دولة تشملها التدابير العقابية الأوروبية، ولو وبنسب وبمستويات نوعية وكمية متفاوتة، استهدف الاتحاد الأوروبي هذا البلد بعقوبات مرتبطة بنهب وسرقة المال العام. يتعلق الأمر إذاً بحالة شبيهة إلى حد ما بما يمكن أن تكون عليه الحالة اللبنانية. لكن التجربة التونسية لا تبشر خيراً (شأنها شأن التجربة الأوكرانية نسبياً). فتونس لم تستعد، منذ عشر سنوات وحتى اليوم، سوى 780 مليون دولار تقريباً من أصل حوالي 13 مليار دولار، يقدّر أنها أموال مختلسة من قبل نظام زيد العابدين بن علي، الذي سقط عام 2011 إثر الثورة التونسية. صحيح أن الأموال هذه ليست مودعة كلها في دول الاتحاد الأوروبي. لكن العقبة الأساسية التي تعترض عملية استعادة تلك المودعة في أوروبا، تتمثل في عدم تقديم القضاء التونسي أدلة على أن هذه المبالغ تم تحصيلها بطريقة غير مشروعة. حتى سويسرا، التي أتاحت استعادة 4 مليون يورو من الأموال المنهوبة لمصلحة تونس، تتذرع بمثل هذه الحجة القانونية للامتناع عن تحقيق أي تقدم بشأن هذا الملف. ولا شيء سيَحُول دون خسارة تونس الأموال المجمدة في سويسرا (تقدر بأكثر من 300 مليون دولار) في حال لم تقدم أي مسوغ يتيح استعادتها قانونياً (…).
استعصاء لبناني
بمعنى آخر، لا يمكن للاتحاد الأوروبي، أو أي طرف آخر، أن يكون ملكاً أكثر من الملك. واستعادة الأموال المنهوبة ترتبط في نهاية المطاف بقدرة القضاء المحلي على تقديم إثباتات متينة للأوروبيين. فهل يمكن للقضاء اللبناني، غير المستقل وغير النزيه نسبياً، أو الاستنسابي، أن يحقق أي تقدم يذكر في شأن مسألة النهب المنظم للمال العام في لبنان، على مدى 30 عاماً؟ الجواب معروف سلفاً، لاسيما في ظل عدم وجود قانون فعال حول نزع السرية المصرفية عن المسؤولين وكل من يمت إليهم بصلة، وفي ظل عدم تسهيل التحقيق الجنائي بحسابات مصرف لبنان والوزارات والصناديق الرسمية.
في المحصلة، فإن أي عقوبات أوروبية على شخصيات وكيانات لبنانية، سواء شملت تجميد الأصول أو فرض قيود على السفر، أو الإثنين معاً، أو أكثر من ذلك، من المتوقع أن تكون نتيجتها هزيلة في حال لم يتم تزويد القضاء الأوروبي بأدلة تثبت وجود أعمال غير مشروعة واختلاسات وراء أصول يمتلكها السياسيون ورجال الأعمال في أوروبا.