أحمد الأيوبي -أساس ميديا
ومن مفارقات الانحطاط اللبنانيّ أن يبلغ التحالف الحاكم هذا المبلغ من الفشل والهزال، ولا يشتدّ عود المعارضة لقيادة الشعب نحو التغيير، ليظهر أنّ طرفيْ المعادلة يوشكان أن يتساويا فشلاً وعجزاً وفقداناً للمبادرة.
هذا الواقع هو على الأرجح ما يبقي الشعب اللبناني حتّى الآن رهينَ محبسه السياسيّ، على الرغم من كلّ الأهوال التي نزلت به. فهو لا يرى مشروعاً وطنيّاً جامعاً، ولا جبهة سياسيّة متماسكة، تحمل رؤية تنير طريق الظلام الذي سلكناه مرغمين. فكلّ حزب بما لديه فرحٌ، بينما مصير الوطن يواجه خطر الزوال، من دون أن يحصّنه خزين الأفكار العظيمة عن لبنان التي باتت تتطاير مع كلّ انهيار جديد.
ورغم تسلّط العهد ومرشده على الدولة واضطهاده معارضيه، لم يدفع كلّ هذا المستوى من العنصريّة والطغيان السياسيّ والأمنيّ، الأطرافَ المتضرِّرة إلى تنسيق تحرُّك لدفع الأذى عنها، إلاّ عندما يصل “السكّين إلى الرقبة”، فيعيد تحالف السلاح والفساد توزيعَ الأدوار والحصص، ويكسب المزيد من الوقت الثمين في زمن احتضار وطن الأرز.
كلّ أطراف الأزمة عالقون في معادلات مستحيلة لا مخرج منها، وكلّها تؤدي إلى قعر الجحيم، الأمر الذي يجعلنا نعتقد أنّ الرئيس ميشال عون كان “واثقاً من نفسه، ومدركاً طريقه” عندما أعلن الانطلاق إلى جهنّم. فالرئيس وصهره عالقان في غرف القصر، يعيشان هاجس تأمين الانتقال المضمون لجبران الرازح تحت وطأة العقوبات الأميركيّة، وهما يخوضان معاركهما الأسطوريّة بعد أن سجّل جبران لنفسه رفع أكبر صليب على إحدى تلال البترون، وحصر حقوق المسيحيّين بنفسه.
وبعد أن نشر شباب بعلشميه في الحزب الاشتراكيّ المقاطع الحماسيّة للتدريب العسكريّ، شقّ وليد جنبلاط طريقه نحو بعبدا، رافعاً راية التسوية، بعد أن ضاق صدره بالواقع المقفل، فتطايرت شرارات الغضب نحو “ساكن التلّة”، قاصداً سمير جعجع، ونحو المملكة العربيّة السعوديّة.
أمّا سعد الحريري فإنّه يمثّلُ النموذج الأكثر محاصرة. فهو محاصر في كلّ الأحوال: إذا شكّل حكومة بشروط العرب والدوليّين فهو خاسر، لأنها لن تبصر النور وسيسقط هو معها تحت ضربات “حزب الله” السياسيّة والميدانيّة، وإذا خضع لشروط الحزب وجدّد الصفقة معه ومع حلفائه، انتحر سياسيّاً، وخسر أيّ إمكانية للاستمرار والقبول به عربيّاً ودوليّاً.
من المفارقات، التي تستحقّ الوقوف عندها في هذا السياق، أنّ “حزب الله” يشتعلُ غيظاً من عدم قدرته على ترجمة فائض قوّته في السياسة، ويضطرّ إلى اللجوء إلى وسائلَ التفافيّة، بعد ارتفاع بنيانه فوق بنيان الدولة، ولم يعُد أمامه عمليّاً سوى تنفيذ تهديد أمينه العام الأخير، بالانقلاب العسكريّ، محاولاً استدراج القوى المحليّة والخارجيّة إلى التفاوض، كما سبق أن حصل في الدوحة بعد عدوان 7 أيّار 2008.
أمام هذا الأفق المسدود، وبدل أن تتحرّك الأحزاب السياسيّة المعارضة لـ”حزب الله” من أجل توحيد جهودها على برنامج تحرير وطنيّ من الاحتلال الإيرانيّ، نراها تتّجه إلى محاولات بائسة لتشكيل جبهات مبتورة، يبدو أنّ بعضها يواجه البعض الآخر، بدل أن تواجه الحزب واحتلاله للبنان.
وبينما لا يزال البعض يعتقد أنّ في الإمكان حلّ هذا الإشكال عن طريق انتخابات مبكرة، أصبحت الأزمة تلامس انفراط عقد الوطن، وبتنا نواجه فعلاً مفترق طرق نهائياً: إمّا الانخراط في معركة الاستقلال الثالث، كما وصفها النائب نهاد المشنوق من منبر بكركي، وإمّا البقاء في مركب السلطة الغارق، والغرق معها.
دعا المشنوق بعد لقائه البطريرك بشارة الراعي إلى “تجمّع القوى السياسيّة الجديدة والقديمة للوقوف إلى جانب مبادرة البطريرك بشارة الراعي المتعلّقة بمسألتيْ الحياد والمؤتمر الدوليّ”، مؤكّداً أنّ “هذا هو الخيار الوحيد أمامنا لتحرير لبنان من الاحتلال السياسيّ الإيرانيّ”.
إضافةً إلى تصدّي المشنوق لحملات التخوين ضدّ البطريرك الراعي، طرح مع هذا الأخير مسألة “استقلال لبنان الثالث”، مستذكراً “الأدوار التاريخيّة للبطاركة: الياس الحويّك، أنطوان العريضة ونصر الله بطرس صفير الذي قاد الشعب اللبنانيّ في معركة الاستقلال الثاني عام 2005″، ورأى أنّ “البطريرك بشارة الراعي هو بطريرك الاستقلال الثالث”.
وعبّر المشنوق عن الوجدان السنّيّ والوطنيّ المؤمن بضرورة التحالف الإسلاميّ المسيحيّ الوثيق، مع التذكير بالدور المسيحيّ في صيانة الكيان وتحقيق الاستقلال، وهو دور مركزيّ لا يقلِّل منه انحرافُ فئة من المسيحيّين اختارت الهرطقة في الدستور والابتعاد عن الفكر المسيحيّ الحرّ، لتلتحق بركب الاسترقاق السياسيّ، ولو كان ثمنه سُكن القصور ونسيان الشهداء في القبور، وهو فعل أنكره البطريرك الراعي على رؤوس الأشهاد.
يستهدف المشروع الإيرانيّ في لبنان المسيحيّين أوّلاً، ثم البقية، لأنّ الوجود المسيحيّ هو الذي أبقى لبنان صامداً في وجه محاولات “ضمّه” إلى السجن العربيّ الكبير، وأيّ تعديل أو نسف لاتفاق الطائف والدستور سيدفع المسيحيّون ثمنَه الباهظ أوّلاً، ثم المسلمون.
يحتاج الواقع إلى جبهة وطنيّة تضع جانباً الحسابات الانتخابيّة، وتلتقي على حفظ الدستور بأبعاده الوطنيّة والعربيّة، سبيلاً لتحقيق الاستقلال الثالث، قبل الدخول في الفوضى المؤدّية إلى زوال الوطن.