عبد الباري عطوان-رأي اليوم
وجه هنري كيسنجر، الذي يوصف “بداهية” العلاقات الدولية، نصيحة على درجة كبيرة من الأهمية لبلاده الولايات المتحدة الأمريكية تقول “إن عليها المسارعة بالتوصل إلى تفاهم مع الصين حول نظام عالمي جديد لضمان استقرار العلاقات بين الجانبين وتجنب مواجهة عسكرية عالمية، وتمنع حدوث فوضى”.
وحذر كيسنجر في مداخلة له بنظام “الزوم” في ندوة نظمها المعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن “تشاتم هاوس” “أن العالم سيواجه فترة خطيرة مثل تلك التي سبقت الحرب العالمية الأولى مع فارق أساسي وهو امتلاك المعسكرين، الغربي والصيني، أسلحة تكنولوجية متقدمة جدا، (أسلحة نووية استراتيجية) قد تستخدم في أي مواجهة عسكرية”.
نصيحة كيسنجر هذه وتحذيراته جاءت متأخرة في اعتقادنا، لأن سياسة العقوبات التي بالغت إدارة دونالد ترامب في تطبيقها ضد خصومها في الصين وروسيا وإيران وفنزويلا على مدى السنوات الأربع الماضية، ومجيء رئيس ديمقراطي ضعيف (جو بايدن)، فرض خريطة تحالفات عالمية جديدة، أبرزها التحالف الصيني الروسي الكوري الشمالي الإيراني المفتوح، والعمل بسرعة لتطوير نظام اقتصادي مالي بديل للنظام الأمريكي الأوروبي الذي هيمن على العالم بقيادة أمريكا منذ الحرب العالمية الثانية.
كيسنجر الذي تنبه مبكرا لخطر التحالف الروسي الصيني على بلاده، واخترع دبلوماسية البينغ بونغ (كرة الطاولة) لمنع هذه التحالف، وتكوين حلف أمريكي صيني قوي بديل في مواجهة الإمبراطورية السوفيتية في بداية السبعينات من القرن الماضي، كيسنجر (96 عاما) ربما لا يدرك أن العالم تغير، وأن الصين التي “أغواها” بالتحالف مع بلاده ليست الصين اليوم التي تقترب بسرعة من تزعم عرش العالم اقتصاديا أولا، وعسكريا ثانيا بسرعة قياسية.
اليوم السبت وقع محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني، اتفاق تعاون تجاري استراتيجي شامل مع نظيره الصيني الزائر وانغ يي، لمدة 25 عاما، وستكون نقطة الارتكاز الأولى له، استثمار الصين 450 مليار دولار في البنى التحتية الإيرانية على مدى بضع سنوات في طرق سكك حديد، وموانئ، ومصانع مدنية وعسكرية والقائمة تطول.
الدوافع الكامنة وراء هذا الاتفاق الذي جرى التفاوض حوله بين البلدين منذ سنوات عديدة ومعقدة قد تتجاوز مجرد مواجهة واشنطن، إلى آفاق مستقبلية تجارية وعسكرية أعمق، أبرزها حصول الصين التي تزيد احتياجاتها النفطية الخارجية عن 6 ملايين برميل يوميا على حصة الأسد من النفط الإيراني، وتأمين سوق خارجي ضخم للبضائع الصينية، وتعزيز مشروع “الحزام والطريق” الاقتصادي الاستراتيجي العابر للقارات.
الإيرانيون أدركوا أن ميزان القوى العالمي يتغير في غير صالح أمريكا التي تفرض عليهم عقوبات منذ أكثر من 40 عاما، واستغلوا فرصة التنافس الصيني الأمريكي الحالي من أجل مواجهة كسر الحصار، وتعزيز مصالحهم الاقتصادية والسياسية على المديين القريب والبعيد بالدخول في تحالف مع الصين وروسيا وكوريا الشمالية وفنزويلا في مواجهة حلف “الناتو”؟
الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي عام 2018، وتلكؤ دول الاتحاد الأوروبي عن مساعدة إيران وتخفيف العقوبات الأمريكية عنها، وفرت فرصة ذهبية للصين للدخول إلى الشرق الأوسط عبر البوابة الإيرانية، وها هي الصين، وبعد توقيع الاتفاق الاستراتيجي مع إيران، تتقدم بمبادرة للسلام لحل الصراع العربي الإسرائيلي، وهي التي أهملت هذا الصراع لعقود سابقة.
هذا التقارب الاستراتيجي بين إيران والصين هو أحد أسباب تشدد موقف الحكومة الإيرانية تجاه العرض الأمريكي باستئناف المفاوضات للعودة إلى الاتفاق النووي، فالبقاء خارجه يناسبها أكثر في ظل تصعيدها لمعدلات تخصيب اليورانيوم (20 بالمئة حاليا) وتقليص شبه كامل لتعاونها مع المفتشين الدوليين، مما يقربها أكثر من أي وقت مضى لامتلاك أسلحة نووية لو أرادت.
إدارة بايدن بدأت تعي هذا التحول في الموقف الإيراني، وتخلت عن معظم شروطها، وأبرزها التفاوض على اتفاق بديل جديد يشمل الترسانة الصاروخية الإيرانية وتجاربها، وأكدت اليوم أنها لم تعد تطالب إيران بالالتزام أولا ببنود الاتفاق النووي القديم، ولهذا نعتقد أن إيران، وبعد الاتفاق الصيني، ستزيد من صلابة موقفها، خاصة أن الانتخابات الرئاسية فيها باتت بعد شهرين (حزيران المقبل)، وكل المؤشرات تؤكد أن رئيسا متشددا مقربا من السيد خامنئي المرشد الأعلى وجناحه سيخلف حسن روحاني المعتدل.
أخطر ما في الاتفاق الصيني الإيراني ليس كسر الحصار، وإفشال العقوبات الأمريكية فقط، وإنما أيضا التزام الصين بالحفاظ على مصالحها وحمايتها في طهران أمنيا وعسكريا، ولهذا فإن أيام أمريكا وحلفائها القادمة في الشرق الأوسط قد تكون صعبة جدا.. والأيام بيننا.
المصدر: عبدالباري عطوان