العهد يورِّط سلامة: إطلاق متعثّر للمنصّة الجديدة


كان من المفترض أن يكون إطلاق عمليّة التداول بالعملات الأجنبيّة من داخل النظام المصرفيّ جزءاً من خطة واسعة في المرحلة المقبلة، تأخذ بعين الاعتبار عمليّة الرفع التدريجيّ للدعم مع ما سيصاحب ذلك من امتصاص للسيولة بالليرة من الأسواق، وتسعى على المدى الطويل إلى توحيد أسعار الصرف وتعويم السعر الموحّد ضمن هامش قابل للاستيعاب.

لهذه العمليّة أصولها التي يفقهها أبناء القطاع المصرفيّ جيّداً، والتي يمكن أن تؤدّي في المحصّلة إلى خفض سعر السوق السوداء ليلاقي سعر الصرف المعوّم الجديد ضمن النظام الماليّ الرسميّ، وخصوصاً إذا جاءت بالتوازي مع رزم دعم وازنة بالعملة الصعبة من جهات قادرة على فرض شروط إصلاحيّة صارمة على السلطة السياسيّة، كصندوق النقد مثلاً. مع العلم أنّ هذا النوع من الخطط المتقنة لا بد أن يتوازى مع إجراءات لإعادة الانتظام للقطاع المصرفيّ، ليستعيد دوره في استيعاب الكتلة النقديّة، ولو وفق مسار طويل ومتدرّج.

لكنّ العهد، منذ البداية، تعامل مع مسألة سعر الصرف برؤية اعتباطيّة لا يفسّرها قانون في علم المال أو النقد.

كان من المفترض أن يكون إطلاق عمليّة التداول بالعملات الأجنبيّة من داخل النظام المصرفيّ جزءاً من خطة واسعة في المرحلة المقبلة، تأخذ بعين الاعتبار عمليّة الرفع التدريجيّ للدعم مع ما سيصاحب ذلك من امتصاص للسيولة بالليرة من الأسواق

في أيّام حكومة دياب، حمل فريق الرئيس ميشال عون الوزاريّ شعار “ضخّ الدولار” في الأسواق للسيطرة على سعر صرف الليرة، فدفع مصرف لبنان نحو قرارات أدّت إلى مشاهد كاريكاتوريّة غير مألوفة، منها ظاهرة احتشاد المواطنين لشراء الدولار المدعوم من محلّات الصيرفة، قبل بيعه في السوق السوداء.

واليوم، دفعت ضغوط بعبدا مصرف لبنان لإطلاق منصّته لتداول المصارف بالعملات الأجنبيّة، في خطوة عبثيّة سابقة لأوانها وغير قادرة على دفع سعر الصرف الفعليّ في السوق إلى الانخفاض، ولا تبشّر حكماً باقتراب لحظة التخلّص من فوضى أسعار الصرف وتعدّدها. ويخشى البعض اليوم أن تكون هذه الخطوة قد حرقت عمليّة إطلاق التداول بالعملة الأجنبيّة في المصارف باكراً، أو على الأقلّ عرقلة ما يُنتظر منها على صعيد إعادة الانتظام إلى سوق القطع لاحقاً.
ويبدو واضحاً أنّ التحليل “المؤامراتيّ” للفريق المحيط بعون لعب دوراً كبيراً في دفع مصرف لبنان إلى هذا النوع من الخيارات المتسرّعة في غير وقتها، خصوصاً أنّ هذا الفريق ذهب بعيداً في إلقاء اللوم على تطبيقات سعر الصرف والصرّافين طوال الفترة الماضية، لتفسير الصعود الجنونيّ للدولار في الأسواق. وقد رأى عون في ارتفاع الدولار استهدافاً شخصيّاً له، شبيهاً باستهدافه بالمدافع سنة 1990، على ما قال في الاجتماع الشهير في بعبدا. واعتبر أنّها محاولة لليّ ذراعه في النزاع الدائر بينه وبين الحريري. ومن زاوية التحليل المؤامراتيّ هذه بالتحديد، يمكن فهم الإصرار العونيّ على إطلاق فكرة المنصّة قبل أوانها، لحصر عمليّات الصيرفة ضمن نطاق قابل للمراقبة.
وباشر مصرف لبنان، الذي خضع لهذه الضغوط، مطلع هذا الأسبوع مراسلاته مع المصارف التجاريّة، مطالباً إياها بالاشتراك في منصّة التبادلات الإلكترونيّة العائدة لعمليّات الصرافة، على أن تُسجَّل المصارف ضمن نظام المعلوماتيّة العائد لهذا التطبيق كأيّ شركة صرافة. وبذلك اعتبر مصرف لبنان أنّ كل مصرف تجاريّ مدرج على اللوائح بات حائزاً تلقائيّاً لرخصة صرافة، بما يعنيه ذلك من ضرورة إنشاء الأنظمة الداخليّة التي تمكّنه من القيام بالعمليات النقديّة التي تقوم بها عادةً شركات الصيرفة المرخّصة. مع العلم أنّ طبيعة عمليّات الصيرفة التي كانت تجريها المصارف في السابق، وخصوصاً بالنسبة للدولار الأميركيّ، تختلف جذريّاً عن أنظمة عمل شركة الصيرفة، التي تقوم على مبدأ خلق سوق قطع يوميّ يحدّد السعر وفقاً لآليّات العرض والطلب.
يبدو واضحاً أنّ التحليل “المؤامراتيّ” للفريق المحيط بعون لعب دوراً كبيراً في دفع مصرف لبنان إلى هذا النوع من الخيارات المتسرّعة في غير وقتها، خصوصاً أنّ هذا الفريق ذهب بعيداً في إلقاء اللوم على تطبيقات سعر الصرف والصرّافين طوال الفترة الماضية
تؤكّد مصادر مصرفيّة متابعة لتحضيرات مصرف لبنان أنّ المصرف المركزيّ ليس بوارد ضخّ الدولار من احتياطاته لتحويل سعر المنصّة إلى سعر مدعوم جديد، وذلك لسببين:

أوّلاً: لا يملك المصرف المركزيّ حاليّاً قدرة التورّط في باب جديد من أبواب استنزاف العملة الصعبة لتمويل عمليّات تجاريّة إضافيّة من خلال المنصّة، خصوصاً أنّ التوجّه الحاليّ هو نحوترشيد ما يقدّمه مصرف لبنان من دعم لأسعار الصرف الأخرى، وليس لخلق أسعار صرف مدعومة جديدة. مع العلم أنّ فكرة خلق سعر صرف جديد تتناقض جذريّاً مع مسعى توحيد أسعار الصرف في المستقبل، وهو مسعى لا بد منه قبل إعادة الانتظام إلى سوق القطع.

ثانياً: مجرّد تحوّل هذا السعر إلى سعر مدعوم، سيعني تكرار فشل تجربة المنصّة السابقة، إذ سيعني ذلك تحوّل عمليّات بيع الدولار تلقائيّاً إلى السوق الموازية – حيث السعر الأعلى – بدل أن يجري بيع الدولار من خلال المنصّة نفسها كما هو متوقّع. وسيصبح سعر المنصّة مجرّد سعر آخر معتمد لعمليات محدّدة كتمويل بعض العمليّات التجاريّة المحدودة.

لهذا السبب سيقتصر عمل هذه المنصّة في المرحلة المقبلة على احتواء عمليّات الصيرفة غير الخاضعة لأسعار الصرف المدعومة، أي عمليات الصيرفة نفسها التي تجري حاليّاً في السوق الموازية، على أن تخضع هذه العمليّات لآليّات العرض والطلب نفسها وتوازناتها. أما تدخّل مصرف لبنان فمستبعد إلّا ضمن الحدود الضيّقة جداً، علماً أنّ المصرف المركزيّ سيفصل بحزم بين هذه العمليّات وبين حسابات الدولار المحليّ الموجودة في المصارف، منعاً لقيام المصارف بعمليّات يمكن أن تؤدّي إلى شراء الدولار النقديّ مقابل منح العملاء دولارات مصرفيّة محليّة (أو ما يُعرف بـ”اللولار” حاليّاً).

وهكذا يصير من المستبعد أن تؤدّي المنصّة إلى تطوّر فعليّ يؤثّر على توازنات العرض والطلب في سوق الدولار محليّاً، وبالتالي يُستبعَد أن ينجح المصرف المركزيّ بتطويق أزمة سعر الصرف من خلال المنصّة على المدى المنظور. أمّا نجاح المصرف المركزيّ بما هو أبعد من ذلك، فيتطلّب أوّلاً تحديد خطة كاملة تكفل الخروج من نظام دعم الاستيراد القائم حاليّاً، مع أقل أضرار على الفئات المحدودة الدخل، لتوحيد أسعار الصرف تدريجيّاً، ووجود أدوات تسمح بخفض سعر الصرف على المدى المتوسّط عبر امتصاص السيولة بالليرة. وهذا يتطلّب حكماً التخلّص من الأسباب التي تدفع مصرف لبنان إلى ضخّ النقد بالليرة اللبنانيّة باستمرار، أي تمويل عجز الدولة وسداد الدين العام بالليرة والسحوبات النقديّة وفقاً للتعميم 151. بمعنى آخر، البدء بالتخلّص من أزمة القطاع الماليّ وماليّة الدولة ولو تدريجيّاً.

Exit mobile version