كتب محمد صادق الحسيني:
يذهب الكثيرون بعيداً في تصنيف القوة الروسية الصاعدة بانها حليف استراتيجي لمحور المقاومة ولديهم الكثير مما يخدم تصنيفهم هذا..!
فيما يذهب آخرون وهم ليسوا قلة، بتصنيف الروس بانهم بقايا سياسة قيصرية تبحث عن مصالح تاريخية في منطقتنا من المياه الدافئة، الى مصادر الطاقة الواعدة، وهؤلاء ايضا لديهم الكثير مما قد يؤكد تصنيفهم هذا …!
غير ان الجغرافية السياسية وموازين القوى المتحركة على ارضنا والتحولات الدولية المحيطة ببلادنا العربية والاسلامية والتحولات الروسية الداخلية ما بعد الحرب الباردة قد تعزز تصنيفاً آخر، فلنرى ماذا تقول تلك الوقائع:
اولا- ان صعود فلاديمير بوتين لسدة الحكم في موسكو على انقاض البروسترويكا والحرب الباردة جعل روسيا الحديثة تظهر بمثابة خليط من القيصرية والسوفياتية، ذلك ان حاكم روسيا الجديد قام ببناء سياسته الخارجية الجديدة على ٣ اركان هي:
١- احياء القومية الروسية
٢- احياء الكنيسة الارثودوكسية
٣- احياء سياسة الاتحاد السوفياتي الخارجية تجاه الحلفاء التقليديين( او مايسمونها في موسكو بمحاسن الاتحاد السوفياتي)
وقد شكلت هذه فيما بات يعرف بعقيدة بوتين.
ثانيا- برز نجم بوتين ودور روسيا الجديد بالترافق مع تحولات دولية مهمة يمكن تلخيصها بانها نهاية “حرب عالمية” ضد الارهاب كان بطلها محور المقاومة بقيادة الجمهورية الاسلامية ما جعل الحاكم الروسي الجديد الباحث عن احياء دور بلاده السوفياتية القديمة بحاجة ماسة ليكون المظلة الحامية لهذا النصر التاريخي حتى يتمكن من اقتطاف كل ثمار النصر هذا لصالح بلاده مرة واحدة .
ثالثاً- ولان زعيم روسيا القومية الصاعدة يعرف تماما بان بلاده “القارية” في جغرافيتها السياسية ستكون بحاجة للخروج الى اعالي البحار اذا ما ارادت ان تلعب دور المنافس الجديد للقوى البحرية الكبرى، لذلك رأى ان تحقيق حلم استعادة الدور الروسي العالمي يتطلب منه ان يحيي السلوك القيصري التاريخي في التعامل مع كل اللاعبين الصغار كما الكبار على حد سواء، المنتصرين منهم كما المهزومين في الحرب على الارهاب.
وهنا تماماً يمكن فهم سلوك موسكو البراغماتي والنفعي المحض تجاه تركيا و اخيراً السعودية والامارات وقطر، ما جعلها( اي موسكو) تظهر على غير توافق مع قوى محور المقاومة واحياناً على تضاد ولو في الشكل.
رابعاً – ثمة عامل رابع شديد التعقيد يدخل في تحديد السياسة الروسية البوتينية اذا جاز التعبير وهو:
علاقة الروس باليهود تاريخياً وحاضراً والتي يمكن تلخيصها كما يلي:
١- كانت روسيا القيصرية اول من شنت الحملة المناهضة لليهود في ثمانينات القرن التاسع عشر، فيما عرف بسياسة “البوغروم” باعتبارهم المافيا او القوة الخفية المسيطرة على المال والاقتصاد الروسي والتي اعتبرت بمثابة التهديد للامن القومي الروسي القيصري آنذاك.
٢- كانت روسيا اول دولة او من بين اولى الدول التي اعترفت بالكيان الصهيوني بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة.
٣- لدى روسيا نحو مليون ونصف مليون مواطن روسي داخل الكيان يحملون الجنسية المزدوجة، يقضي الدستور الروسي بواجب الدفاع عن امنهم كمواطنين مثلهم مثل المواطنين داخل الاتحاد الروسي.
ولما كان الرئيس فلاديمير بوتين قوميا وقيصرياً في عقله الباطني السياسي، فهو مرة كان مضطراً لمهاجمة المافيا المالية اليهودية الموجودة في تل ابيب الاتحاد الروسي وقمعها بشدة وهو في حال صعود و تعزيز موقع قيادته الجديد تحت عنوان الدفاع عن امن الدولة، فيما هو الان مضطر كثيرا وكثيرا جداً، لمداراة من تبقى من هذه المافيا التي لا تزال متحكمة في كثير من دوائر الاقتصاد والاعلام الروسيين، من اجل توظيف ذلك في سياسته الخارجية التي باتت تتطلب كسب جميع من في الداخل ومن في الخارج من قوى مؤثرة، في اطار مواجهة سياسة الحصار والبطش الامريكي ضده .
عقيدة بوتين المشار اليها آنفاً ومجموعة العوامل المؤثرة التي لعبت دوراً في تسلمه مقاليد الاتحاد الروسي اولا ومن ثم الجغرافيا السياسية المتغيرة التي رفعته من مجرد حاكم روسي قوي الى لاعب دولي كبير، هي التي تفسر اليوم وجهي التناقض في الظاهرة البوتينية تجاه بلادنا العربية والاسلامية، بين من يعتبره مقاولاً شريفاً مدافعاً عن حقوقنا في المعركة المناهضة للارهاب و للامبريالية، وبين من يضعه في صف المقاول المتعارضة مصالحه مع سياساتنا المقاومة ضد الامبريالية والصهيونية.
خلاصة القول فانه وفي ظل التحولات الاقليمية والدولية المتسارعة فان موسكو بقيادة بوتين قوة صديقة لنا بقدر ما نحن اقوياء وثابتين ونعرف ماذا نريد وقادرين على توظيف قوتها باتجاه ما نريد، تماماً كما فعلت ايران وسورية حتى الان .
وفي غير ذلك فقد لا نستطيع الاستفادة منها، بل وربما خسرانها، في حال فكرنا بطريقة المقاول بدلاً من المقاوم..!
المصدر: محمد صادق الحسيني