إنتهت أسطورة الليرة اللبنانية التي تحوّلت في مراحل سابقة إلى مثل شعبي يستعمله الناس للإشارة إلى الثبات، “متل الليرة”، ومع سقوط العملة الوطنية بفعل ممارسات السلطة الفاسدة فُتح باب جهنم الذي بشّر به رئيس الجمهورية العماد ميشال عون على مصراعيه.
قبل ثمانينات القرن الماضي شكّلت الليرة علامة لتقدُّم الدولة اللبنانية وازدهارها، إذ كان الرئيس كميل شمعون يُديّن دولاً خارجية مثل الهند بالليرة اللبنانية، واستُكمل ثبات الليرة طوال العهد الشهابي، ولم تتمكّن نار البواريد والمدافع في بدايات الحرب من إسقاطها، ولعلّ الرئيس الياس سركيس من أكثر الرؤساء الأوادم الذين يتذكّرهم الناس في هذه الفترة لأنه رغم الحرب والدمار حافظ على القدرة الشرائية للمواطن واشترى الذهب الذي تبحث السلطة الحالية عن طريقة لهدره.
وتختصر تغريدة الجنرال المتقاعد طنّوس معوّض منذ أيام الكثير من المعاني بالنسبة إلى كيفية تعامل سركيس مع الليرة وإحساسه بوجع الناس وفشل العهد الحالي في طريقة المعالجة السطحية للأزمة، وقد روى الجنرال معوّض حادثة مهمّة وقال: “في سنة 1977 جمعنا باكراً العقيد جوني عبدو مدير المخابرات ليقول لنا إن الرئيس سركيس لم ينم البارحة لأن الدولار طلع خمسة قروش، ثم قام الرئيس بإنشاء خلية أزمة لرصد الوضع ومعالجته. كان عمري 26 سنة ولم أكن أفهم عمق الأمور وقلت لنفسي شو هالرئيس يلي ما نام لأمر تافه، واليوم أقول سامحني فخامة القدّيس”.
إنتهى عهد سركيس وانتُخب الرئيس بشير الجميل مع حلم بناء الدولة، لكنّ اغتيال بشير وانتخاب الرئيس أمين الجميل فتحا باب جهنم على البلد وبدأت الليرة بالتراجع، فشهد عهد الجميل بداية وداع لبنان الذي عُرف بـ “سويسرا الشرق”، وبالتالي فإن انهيار المالية العامة للدولة إنطلق مع الجميل ولم يستطع من أتى بعده إعادة عقارب الساعة إلى الوراء المزدهر.
وفي قراءة إقتصاديّة علميّة لما جرى خلال عهد الجميل، فقد ارتفع سعر الدولار في 6 شباط 1984 من 3 ليرات إلى 6 ليرات، ولم يتوقف هذا الإرتفاع طوال عهده الى أن وصل في نهاية العهد، أي في عام 1988، إلى ما يقارب 550 ليرة، بزيادة نحو 200 مرة للدولار منذ استلام الجميل مقاليد الحكم، وهذا يُعتبر رقماً قياسياً حصل لأوّل مرة في تاريخ لبنان.
وإذا كان عهد الجميل قد اتّسم بالإنهيار الإقتصادي والمالي، فإن “العنيد” هو من اختار قائد الجيش العماد ميشال عون وسلّمه رئاسة الحكومة الإنتقالية خالقاً أزمة كبيرة في البلاد، وبعد استلام عون مقاليد الحكم، قفز الدولار إلى 1000 ليرة أي بزيادة مرتين عمّا استلمه، ومن ثم قفز الى 3 آلاف ليرة في عهد الرئيس الياس الهراوي أي بزيادة 3 أضعاف تقريباً عما استلمه من عون، وبالتالي فإن حكم كل من الجميل وعون والهراوي حقّق أرقاماً قياسية في نسبة إرتفاع الدولار وصلت إلى 1000 ضعف تقريباً.
وبعد تكليف الرئيس رفيق الحريري تأليف الحكومة، تمّ تخفيض سعر الصرف إلى 1700 ليرة من ثمّ ثُبّت على الـ1500، لكنّ الرئيس عون كسر رقمه السابق عندما كان رئيساً للحكومة الإنتقالية بعدما قفز الدولار بعد تشرين الثاني 2019 إلى يومنا هذا نحو 10 مرات ووصل إلى 15000 ليرة، لكن عون لم يكسر الرقم القياسي بعد، أي 200 ضعف، الذي حققه عهد الجميل بين 1984 و1988.
حقّق عهد عون هذا الرقم ولم نصل بعد الى نهاية العهد والإحتمالات لا تزال مفتوحة، وإذا كرّر الرئيس عون تجربة الرئيس الجميل وتجربته الأولى في إدارة شؤون البلاد بين 1988 و1990، فقد يصل سعر صرف الدولار إلى نحو 500 ألف ليرة في نهاية العهد، وإذا حصل خلل دستوري في المرحلة المقبلة، ما الذي يمنع وصول الدولار إلى مليون أو مليون ونصف المليون ليرة وذلك إستناداً إلى قاعدة الإرتفاع التي حصلت بين عامي 1984 و1992؟ فهل تتكرر تجربة الثمانينات نفسها نقدياً كما فعلت سياسياً؟
وفي السياق، فإن كل المؤشرات تدل على أن لبنان ذاهب نحو هذا السيناريو، وما يحصل من تعطيل وعدم إستقرار سياسي وديون متراكمة وبنى تحتية مهترئة وغياب تام للإصلاحات أو حتى نية للقيام بها، ينتج عنه انعدام في الثقة وشح في تدفق الدولارات إلى لبنان.
وما نراه يحدث اليوم هو ضغط إضافي للإستمرار باستخدام الإحتياطي من العملات الأجنبية لدعم سعر صرف الليرة واستنزاف ما تبقّى من احتياطيات للمصارف بعد نفاد إحتياطي المصرف المركزي، وبالتالي هكذا تعوّم السلطة نفسها وتخدّر الناس من أموالهم، وكلّما شحت هذه الاحتياطيات، كلّما ارتفع سعر صرف الدولار وافتقر الناس.
ويسيطر العناد والتعطيل والتناحر السياسي ولعبة السلطة في “العهد القوي”، بينما الشعب يهاجر أو يموت جوعاً، فلنسلّم جدلاً أن أحد أقطاب السلطة المتنازعين اليوم سيطر على القرار وحكم بقوته، فمن وماذا سيحكم بعد زوال الكيان؟