الحدث

200 دولار لإغلاق ملف عمالة

“ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح

كيندا الخطيب حُرّة عملياً. الفتاةُ التي صدر قرار قضائي بحقها عن المحكمة العسكرية قضى بإنزال عقوبة السجن 3 سنوات بجرم التخابر مع العدو الاسرائيلي، خرجت من السجن بعد عامٍ واحد على دخولها إليه وبكفالة مالية لا تتجاوز الـ3 مليون ليرة، أي ما يوازي 200 دولاراً على سعر صرف الأمس. “يا ضيعان” جهود الأمن العام!

هكذا، أمست القصة سهلة جداً بل بسيطة. 3 مليون ليرة، أو 200 دولار، تكفي لتبيض سجل شخص أدين بارتكاب جرم العمالة، ليس سنداً فقط إلى قرار قضائي صادر عن محكمة مختصة ولو إستثنائية، بل بموجب تحقيقات واستقصاءات ومتابعات أجرتها ضابطة عدلية وخلصت، نعم خلصت، إلى إدانة المتهمة سنداً إلى المواد رقم 258 و278 من قانون العقوبات اللبناني.

هكذا ايضاً، يُلقى بملف كامل متكامل في الأدراج، أو في سلّة المهملات لا فرق طالما أن النتيجة واحدة، فتصبح جهود القائمين على التحقيق غير ذي قيمة أو مجرّد “خدمة” أسدوها لقاء أجر، أو أداء وظيفة غير موجبة للقاضي أن يأخذ بها. هكذا، تتحوّل المحكمة، المحكمة العسكرية تحديداً، إلى شاهد زور، أو متورّط في إخلاء سبيل شخص أو اشخاص، يُفترض أنه/انهم خان أو خانوا، بصرف النظر عن درجة الخيانة او تأثيرها، لكنه في النتيجة خان وأدّى فعل الخيانة براحة ضمير وعن سابق إصرار وترصّد وتوافر نيّة جرمية صافية لديه، ولو تلا فعل الندامة لاحقاً. عند هذا الحد، لن نتفاجأ في حال وقف اللبنانيون بالطوابير طلباً للعمالة غداً!

عملياً، القضاء بات يشرّع “مهنة” العمالة بدل لجمها! لم يبقَ سوى إدراجها على جداول وزارة العمل وإتاحة الفرصة للعميل كي ينضمّ إلى الضمان! هنا بالضبط أصل العلّة، أي في غياب أي معيار يوضع طبيعة الجرم بحق العميل، أو من يُقدم على التواصل مع العدو بملء إرادته، كما فعلت كيندا تماماً، وكما فعل غيرها وقد سبقها الكثيرون، لكنهم ظفروا في النهاية بالجائزة ذاتها، إخلاء السبيل!

نعم، فعلتها محكمة التمييز العسكرية، أي أرفع سلطة قضائية لدى القضاء العسكري براحة ضمير. مرّ القاضي طاني لطّوف إلى مكتبه صباحاً، وقّع إخلاء السبيل المقدّم من المحامين، ثم غادر. هنا تكفلت كيندا بإعلان النبأ السار، وبصورة. ولاحقاً تولت المنصّات تسويقها، لتخلق موجةً من الغضب العارم. اختفى حِسّ القاضي، لم يصدر عنه شيء، إختفى ببساطة، حتى أن أحداً لم يُبرّر له فعلته، أو يسأله عن موجباته وسنداً إلى ماذا يا حضرة القاضي!، ولولَا وجود وسائل تواصل اجتماعي “فالتة” لما قدّر للناس أن يعلموا بما جرى!

هل يجب أن نتحسّر على مآل الأمور؟ نعم. هل نصمت؟ لا. هل نغضب ونثور ونلعن ونشتم بل ونكفر بالقضاء؟ نعم. هل نقف عند اللا-محاسبة وكأن القضية مضت وانتهى كل شيء؟ لا. هل يجدر بنا الملاحقة وتسمية الاشياء بأسمائها، الأكيد نعم. من هنا، نقول وبكل رحابة صدر وضمير مرتاح: “لا حاجة للمحكمة العسكرية بعد الآن” بعدما تحولت أولاً إلى مرتع للتدخلات السياسية في شقّيها الداخلي والخارجي، وثانياً إلى وصمة عار يُراد إلصاقها بالجيش اللبناني والأجهزة الأمنية الأخرى، غير المعنية لا من قريب ولا من بعيد بقرارات هذه المحكمة. وثالثاً وأخيراً، جعل الضابطة العدلية المتمثلة بالجهاز الامني، أي الطرف المحقّق، عنصراً مثير للشبهة أو مشتبهاً به، سيّما حين يبدأ البعض بترويج فرضيات حول وجود ميول ودوافع لتلفيق ملفات بحق ناشطين، بذريعة القمع العام.

لا، لن نسمح أن تكون العمالة قضية رأي العام، أو وجهة نظر. المسألة تتجاوز ذلك بكثير، وصولاً إلى المساهمة مع العدو في الانقضاض على فئة لبنانية يحميها الدستور. الخلاف السياسي، لا يخوّل أي أحد كان أن يتحول جاسوساً، تماماً كما حال التوجه السياسي أو حتى الضغط، حيث لا يجدر أن يدفع بالقاضي إلى سلوك مسارات غير قانونية، تجعله موضع شبهة.

عملياً، قصة إطلاق سراح كيندا الخطيب من السجن ليست جديدة. بشّرنا بها المعتقل السابق لدى إيران والخارج بصفقة معقودة مع الولايات المتحدة نزار زكا. في شهر تشرين الاول الماضي زفّ خبراً ساراً لكيندا والعائلة، قال: “…الحرية قريباً!” لاحقاً، ذكر في مقابلة صحافية أنه “تلقى وعدًا من جهات مُطّلعة على القضية بقرب الإفراج عن كيندا الخطيب بناءً على معطيات جديدة استُجدّت على قضيتها”. لكن ما هي هذه “المعطيات الجديدة”، وما هي الصفة التي يحوزها زكا كي يُبلّغ بقرب الإفراج عن كيندا؟ وهل بات زكا “سمساراً” لموقوفين متهمين بالعمالة مع العدو الاسرائيلي؟ أو الأصح، هل بات ذراعاً أميركية تنفيذية في ما له صلة بهذه الملفات، في عودة لأدواره السابقة خلال توقيف عامر الفاخوري؟

كل ذلك يؤدي إلى رفع الإعتقاد بوجود أيادٍ سياسية، سواء كانت خارجية أم داخلية لا فرق، تتعاطى الشأن القضائي وتتدخّل به بل وتفرض رأياً. ماذا يعني مثلاً أن يتدخل الاميركيون في ملفات سياسية داخلية وقضائية؟ ماذا يعني أن تتدخل أحزاب ونواب ووجهاء مناطق في عكار وفوقهم دار الفتوى لممارسة الضغط في سبيل إطلاق سراح متهمة بالتخابر مع جهة يقول الدستور صراحةً أنها عدو؟

كيندا قالت ذلك، وعلناً، بل وتفاخرت به على الـmtv، مجروراً بتوجيه الشكر إلى كل هؤلاء، ولو قدّر لها لكانت سمّت تيار “المستقبل” بالإسم ومن دون حرج. بدت وكأنها تتلوا خطاب نصر. فتحت لها “قناة المرّ” الهواء، علماً أنها، ومن حيث الشكل، ما زالت متّهمة، ولم يصدر قرار يُثبت براءتها بعد، ما يعني عملياً أن القناة، فتحت كوكبها حتى تعبّر متهمة قضائية بحرّية، فقط لغرض الحرتقة على طرف سياسي أو بهدف إثارة غضبه أكثر، وفي إطار النكاية السياسية طبعاً، كي لا نقول تحليل منطق التعامل مع العدو وكأنه حدث عادي.

من حيث الأساس، وفي تقدير مصادر قضائية “محترفة”، أخطأ القاضي طاني لطّوف في قراره، وتسأل: “ماذا يعني إخلاء السبيل في الحالة الراهنة”؟ تضيف: لقد زاد لطوف من غموض قراره غموضاً. فهو، لم ينصف كيندا الخطيب، لم يقل أنها بريئة، ولم يقل أنها متهمة. وقف ما بين بين. هنا، كان يجدر به، كونه السلطة الأعلى في القضاء العسكري، وفيما لو توافر لديه معطى جديد له قدرة على تغيير مسار القضية، ان يبادر إلى تمييز الحكم بإصدار حكم بالبراءة، لا الإكتفاء بإخلاء السبيل، الذي سيبقي القضية مفتوحة، فيظهر الحكم بأنه “جاف” وذات صبغة غير واضحة المعالم.

في النتيجة، انضمّت كيندا الخطيب إلى أسلافها من المدانين بتهمة العمالة والخارجين من الزنازين معزّزين بلقب بطل مظلوم. غداً، سنشهد على نحر الخراف إحتفالاً بالمناسبة، ولعلنا سنشهد على مناسبات كثيرة من هذا النوع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى