لا وجود لـ«يد خفية» مسؤولة عن انهيار العملة الوطنية وتردّي معيشة السكّان، بل يوجد من أخذ عن سابق تصوّر وتصميم قرار إشعال البلد عبر ترك عملته تنهار. سياسة مصرف لبنان غير خافية على أحد من المسؤولين المحليين والجهات الدولية، بأنّها ترتكز على إطفاء خسائر القطاع المالي عبر «الدعس» على حياة الناس. سلامة قادر على التدخّل في سعر الصرف، «لتهدئة» اللعبة، وتخفيف حدة انهيار سعر الصرف، ومعه كامل الاقتصاد ومعيشة السكان. السلطات الرسمية تعرف أنّه «مُذنب»، مع ذلك لا تُسائله، ولا تحدّ من سلطته، بل تتفرّج عليه يُحدّد أولويات الدولة الاقتصادية وسياستها الاجتماعية وموارد تمويلها. سكّان لبنان أسرى سلطة إمّا ينتمي أعضاؤها إلى «حزب المصرف»، وإمّا لا يجرؤ أحد منهم على اتخاذ قرار، وأسرى جشع رجال المال
رمَى «الصندوق» هذه التُهمة بوجه حاكم مصرف لبنان خلال إحدى جلسات التفاوض مع وفد الحكومة اللبنانية ومصرف لبنان على خطة الإنقاذ المالي، بعد أن عرض سلامة أن تُقسّط خسائر القطاع المالي على فترات طويلة، أي طبع المزيد من الليرات ورفع مُعدّلات التضخّم، وتعويضها من خلال وضع اليد على الأملاك العامة… اقتراحات «صُدم» منها حتّى صندوق النقد، «عدوّ» الشعوب اجتماعياً والمُستبّد بقرار الحكومات المالي، إلى حدّ تفكيك سلطة الدولة وأملاكها. فأتى الرَدُّ عالي النبرة على «حليفه الليبرالي». في 16 آذار 2021، بلغ سعر الصرف في السوق أكثر من 14 ألف ليرة مقابل الدولار، فيما البنك المركزي مُنسحب من أداء وظيفته، يُفضّل حاكمه حلّ مسائل قضائية شخصية في باريس. تطورات الأيام الأخيرة المأسوية ليست سوى «التزام» من سلامة بسياسة «الأرض المحروقة»، بالتزامن مع وجود مجلس وزراء قرّر أنّه لم يعد يُريد اتّخاذ أي قرار، ومجلس نواب «اختصاصه» تعطيل كلّ مشروع «يحمي» القليل من حقوق الناس، وتشريع مصالح القطاع المصرفي على حساب المواطنين.
منذ التسعينيات، «تطرّف» سلامة في تبنّي تثبيت سعر الصرف على الـ1507 ليرة / دولار. لماذا لا يتدخّل حالياً؟ «لأنّه يكذب وقد صرف دولارات الاحتياطي الإلزامي، والتقديرات تُشير إلى أنّ المبلغ المُتبقي لا يتعدّى 10 مليارات دولار»، يقول أحد الخبراء الاقتصاديين المُطلعين على ميزانيات القطاع المالي. انكشاف مصرف لبنان «يُشكّل إدانة لسلامة وليس تبرئة له. في الـ2019 ذكر وجود 30 مليار دولار، مبلغ أكثر من كافٍ لمنع انهيار سعر الصرف. وحتّى لو كان المبلغ 17 مليار دولار، فيُمكن استخدام جزء منه للدفاع عن الليرة». ويُضيف أنّ الكتلة النقدية بالليرة وصلت وفق آخر الأرقام إلى 32 ألف مليار ليرة، «مصرف لبنان بحاجة إلى 8.5 مليارات دولار لتغطيتها، بحسب سعر صرف 3900 ليرة. ألا يُفترض بحامي النقد أن يتدخّل لو كان يملك 17 مليار دولار كما يدّعي؟». التناقض في تصريحات سلامة حول حجم الاحتياطي الإلزامي والمُدّة التي يُمكن أن يستمر دعم الاستيراد خلالها، يؤكّدان كذبه في الأرقام المُقدّمة، ولكنّه أيضاً مُتّهم بتنفيذ مُخطّط تدمير العُملة.
كلام مُمثلي صندوق النقد العام الماضي، كان تعرية لنيات سلامة وخطّته في تَرك الليرة تنهار، فيتمكّن من تعويض خسائر «المركزي» والمصارف. هو تحميل المصيبة كاملةً للناس عن سابق تصوّر وتصميم، بعد أن خُدعوا بـ«نعيم» تثبيت سعر الصرف ودفعهم إلى الاستهلاك بما يفوق قدراتهم المادية، فيما هم محرومون من كلّ حقوقهم كمواطنين في دولة. اختار سلامة اليوم «تطرّفاً» من نوعٍ آخر، أن ينفض يديه من مسؤولياته ويتوقّف عن الدفاع عن استقرار العملة الوطنية. الخطورة حالياً أنّ انسحاب «المركزي» من السوق يتمّ من دون رؤية أو خطة استراتيجية أو قرار وزاري، ما يعني أن تبعاته على سكّان لبنان ستكون كارثية.
«قرار تحرير سعر الصرف يتّخذه وزير المالية وليس حاكم مصرف لبنان»، يقول أحد الوزراء في حكومة تصريف الأعمال. خلال الفترة الماضية، «ضغط سلامة كثيراً لاتخاذ قرار تحرير سعر الصرف وجعله عائماً من دون ضوابط». لم يأخذ سلامة في عين الاعتبار أنّه حتّى سعر الصرف العائم بحاجةٍ إلى مقوّمات عديدة قبل اعتماده، أهمّها «قدرة البنك المركزي على التدخّل لمنع انهيار العملة الوطنية، أي امتلاكه الدولارات. فهل هي مُتوافرة لديه؟ إضافة إلى ذلك، يجب حصول نموّ اقتصادي مقبول وتراجع العجوزات، ووجود حكومة فاعلة ومجلس نواب يواكبها تشريعياً». وزارة المالية مُقتنعة بضرورة التخلّي عن تثبيت سعر الصرف، «ولكنّها بعد دراسة الوضع وَجدت أنّ التعويم في ظلّ الواقع الحالي له انعكاسات سيّئة. فحالياً، ثمة مُتنفّس صغير للناس أنّ سلعاً رئيسية تُستورد على أساس 1500 ليرة لكلّ دولار، تماماً كما الجباية».
عملياً، فرض سلامة «التعويم» بحُكم الأمر الواقع، «مُتسلحاً» بموقفه التحذيري السابق للحكومة من عدم امتلاكه ما يكفي من الدولارات. وكان يقول في جلساته مع المسؤولين إنّه قادر إمّا «على التدخّل في السوق عبر ضخّ الدولار وإمّا يدعم استيراد السلع، ولكنّه لا يستطيع القيام بالأمرين معاً». يقول أحد المسؤولين الاقتصاديين إنّ سلامة «توقّف عن إعطاء الصرّافين المُدرجين على المنصّة الدولارات لتسهيل بعض حاجات السوق، وفي الوقت نفسه أبطأ معاملات فتح اعتماد الاستيراد، ما أدّى إلى تقليل الكميات المعروضة، وبالتالي زيادة الغليان الشعبي والتوترات بين الناس حول علبة الحليب وكيس الأرُز…». ما يطرحه المسؤول الاقتصادي هو «العودة إلى ضخّ كمية ولو قليلة من الدولارات في السوق، تُخفّف من الضغط على سعر الصرف، بانتظار الحلول الكُبرى».
لكنّ ما تقدّم سيُعتبر «إبرة مورفين» في جسد لم تعد تنفع معه سياسات الترقيع، فضلاً عن إعادة فتح النقاش حول إمكانية المسّ بالاحتياطي الإلزامي لاستخدام الدولارات. تُجيب إحدى الخبيرات الاقتصاديات التي تولّت مناصب في مؤسسات دولية أنّه «يجب التفريق بين المقاربة القانونية التي تقول إنّه لا يجوز أن يتدنّى الاحتياطي عن الـ15% لأنّها أموال الناس، وبين أنّه اقتصادياً هذه الدولارات لا معنى لها بوجود فجوة في حسابات مصرف لبنان تفوق 50 مليار دولار، وتمنع أي مصرف مركزي من لعب دوره بعد أن فقد كلّ مصداقيته». تتحدّث عن خطورة مغادرة «المركزي» السوق، «ولكنّ التخلّي عن واجباته بدأ منذ أول الأزمة وعمّقها عبر الاستخدام العشوائي للدولارات، لذلك عبثاً نتوقّع منه اليوم إجراءات، فيما المطلوب تصحيح للواقع النقدي». تجزم بأنّه «لا يوجد حلّ تقني لهذا النوع من الأزمات، وهي أعقد من أن تُحمّل مسؤوليتها لمصرف لبنان وحيداً». يفتح هذا الكلام النافذة على دور السلطات في مواجهة الأزمة. بالتأكيد أنّ مصرف لبنان هو صانع السياسة النقدية، ورياض سلامة لم يكن يوماً مُجرّد موظّف في الدولة، كما يدافع عنه المُنتفعون منه. إلا أنّ ذلك لا يُبرّر اكتفاء الحكومة بـ«المُشاهدة»، وعدم أخذ المُبادرة. مسار الأحداث أخطر من أن يبقى في يد رجل يبحث عن حماية مصالحه ومصالح مجموعة من المُنتفعين، لا يهتمون سوى لحسابات الفاصلة والجمع والضرب. تُريد الحكومة من سلامة أن يستمر في دعم الاستيراد، وتسمح له بأن يبتزّ عبر تقنين الدولارات، من دون أن تحسم ما هي سياستها وأولوياتها الاجتماعية – الاقتصادية، وأي سعر صرف تريد لأي نظام اقتصادي. أما المواقع المفصلية في مجلس النواب، فقد أثبتت خلال السنة المُنصرمة تأمينها مصالح «الأوليغارشية»، أكان عبر إسقاط خطة التعافي المالي أم عبر عدم إقرار قانون «الكابيتال كونترول». يقول وزير في الحكومة الحالية إنّ «المُعضلة بوجود حكومة تصريف أعمال ترفض أن تتخذ أي قرار، ورئيس مُكلّف يرفض أن يُؤلف حكومة حتّى لا تتحمّل تبعات القرارات شعبياً».