المستقبل يغار… لماذا حزب الله وليس نحن؟
غداً الدولار ثابتاً عند ارتفاع 12,400 ليرة، لا يتحرّك إلّا صعوداً ولا شيء يهزّه بعدما بلغَ عبتة الـ 13000 السبت. راسخ رسوخ الأرز في القمم، عتيّ على أي مستعلي، لا إقفال طرقات ولا اعتراضات في الشارع تدفعه إلى التراجع، وأصلاً، تلك الأفعال أثبتت عدم جدواها استناداً إلى ما بيّنته وقائع الأيام التي خلت، حيث ثَبُتَ أنها عرضةَ للإختراق من “بلوك” الأحزاب الجاهز لفرض نفسه وأجندته على أي حِراك.
بهذا المعنى، بات التحرّك في الشارع فقط من أجل التحرّك وتنفيس الغضب، عملة بالية بشهادة عدم منفعتها، والمطلوب، بدل التلهّي بتلك المسائل، بلورة توجّهات واضحة ذات ثقل شعبي لا مركزي، متجرّدة من سطوة الأحزاب، وفي مقدورها خلق حالة ضغط مكثّف ومتصاعد على شكل “لوبي”. والبلد الذي يقف على “شوار” لم تعد تنفع معه المسكّنات، بل يحتاج إلى عملية استئصال عاجلة للورم السرطاني الخبيث، والطريق إلى ذلك يبدأ أولاً بتشخيص واقعي ودقيق لأصل الداء والعلّة، وكما هو مبيّن على الشاشة، يبدأ من المصارف ومُرابيها ومن يحتشد خلفهم من سياسيين و “فرع صيرفة” تتدفّق إلى خزائنها الليرة على نيّة استبدالها بدولارات لزوم تأمين سيولة المصارف!
على هذا النحو، تُرفَّع المصارف كمستفيد أول من غلو الدولار، وعلى السلّم تأتي خلفهم السياسة والسياسيين وأحزابهم، ومن ضمنهم أولئك الذين ما زالوا يتقصّدون تجميد تأليف الحكومة الجديدة حتى يتسنى لمسلسل “شفط الدولار” أن يستكمل مهمته بحرّية. من هنا، لم يعد من مجال لإعفاء رئيس الحكومة المكّلف سعد الحريري من مراكمة الإستفادة على ظهر انهيار سعر الصرف، ومعه الوضع العام في البلد، وهو المتهم بالدليل القاطع بأنه “يُبرّد” حكومياً، لارتباط ذلك بتحسين ظروف العودة إلى السراي، إذ يأمل الحريري أن يتجاوز مرحلة الإرتطام بأقل أضرار ممكنة، وترك “جماعة العهد و حكومة تصريف الأعمال”، يأكلون من الأزمة حتى يتسنى له تحميل هؤلاء مجتمعين المسؤولية والأسباب والنتائج ليصبح في مقدوره تأمين عودة هادئة ووفقاً لشروطه. وعملاً بالقاعدة نفسها، لم يعد من مجال لاستثناء العهد وأركانه من تهمة التعطيل. فصحيح أنهم أبدوا مرونةً عبر الموافقة على الجرعة الأخيرة من “لقاح المبادرات” الذي وفّره اللواء عباس ابراهيم، لكنهم بقوا حذرين وعلى مسافة من رئيس الحكومة المكلّف من دون موافقتهم على المبادرة تجاهه ودعوته إلى قصر بعبدا، حتى ولو قاد ذلك إلى حشر المكلّف في الزاوية.
والحريري، المتهم الدائم بالتخريب، سبق ل “حزب الله” أن وفّر له شروط النجاح، وفي أكثر من مرّة، ليس آخرها “الطرح” الذي تقدّم به السيد حسن نصرالله، والقائم على إسقاط الثلث المعطل مقابل إخلاء سبيل الحكومة. فلو كان الحريري يطمح إلى التأليف، كما يدّعي، لكان تلقّف الطرح الذي أعاد بلورته اللواء ابراهيم كي يصبح مبادرة، وسارع به إلى بعبدا فور عودته من الخارج. لكن وبدلاً من ذلك، ما زال يستمهل، ما يعزّز الشكوك، أن ظروف جمود الحريري غير محلية بل إقليمية وتتصل بعدم رغبة سعودية تحديداً. مع ذلك، وبدل ردّ الجميل إلى الحزب الذي وقف معه، وما زال، إلى حدّ بات حلفاء الحزب لا يخفون انزعاجهم منه، بادرَ قياديون ومسؤولون في تيار “المستقبل” إلى فتح جبهة على “حزب الله”، وطالبوه تارةً بالضغط على الرئيس ميشال عون وسط اتهامه بأنه مستفيد من الفراغ، لذلك لا يسهم في تليين مواقف حليفه البرتقالي، وفي مقامٍ ثانٍ يذهبون نحو “الحرتقة” عليه من خلفية منحه تأشيرة دخول إلى الأراضي الروسية بصفة “مقرّر سياسي في لبنان”.
فأوساط “المستقبل”، انشغلت خلال اليومين الماضيين في التنقير والحرتقة على زيارة وفد الحزب الذي يضم رئيس كتلة “الوفاء للمقاومة” الحاج محمد رعد ومسؤول العلاقات الخارجية النائب السابق السيّد عمار الموسوي إلى روسيا، وإسباغها أبعاداً غير واقعية، كالإدعاء بأنها تتصل بالتباحث وموسكو، في شؤون تتصل بالداخل السوري وترتيب انسحاب “حزب الله” من هناك، معطوفاً على إسقاط أي “نزعة لبنانية” في الزيارة ومحاولة تفريغها من أي مضمون محلي له علاقة بالوضع الداخلي ودور الحزب في إنجاح ظروف أي مبادرة سياسية.
وتصرفات “المستقبل”، في ظلّ عدم منح موسكو دعوةً إلى الحريري لزيارتها كما كان يأمل، مقابل إتاحة الفرصة له لإجراء لقاء “قصير” مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على هامش زيارة الأخير إلى الإمارات العربية المتحدة، بالإضافة إلى عدم توجيه موسكو دعوةً لأي فريق سياسي داخلي لزيارتها ومنهم “المستقبل”، واختصار ذلك بالحزب فقط، تنمّ عن “غيرة وحسد” تجاه الحزب و “إنزعاج” من التصرّف الروسي، كما أنها تعبير يضمر رفضاً للخطوة.
وفي حين أن المصادر المقرّبة من “حزب الله”، رفضت التعليق على “الترهات” التي تُساق حول الزيارة، أكدت أوساط متابعة لهذا الشأن، أنه، وعلى عكس ما يروّج، فإن زيارة الوفد السياسي الرفيع من الحزب إلى موسكو، تحمل على جدول أعمالها شؤوناً تتصل بملفات سياسية لبنانية داخلية و”حسّاسة”، لتجزم أن لا وجود إطلاقاً لشيء اسمه “ملف ترتيب إنسحاب حزب الله من سوريا” أو مناقشة “حضور الحزب في الإقليم”. فالحزب انجزَ انسحاباً جزئياً من سوريا منذ مدة، وقد أبقى على نقاط ثابتة ومتحرّكة في مناطق محدّدة، وهذا الملف معزول عن أي نقاش وتفاهم الحزب حوله مع الجانب الرسمي السوري.
ورغم أن “المستقبل” ما برح يُكابر ويُروّج لتلك الأنباء، يوقع نفسه متعمداً في حفرة عدم أهلية الزيارة – من حيث الشكل – للتباحث في شؤون عسكرية على صلة بالحزب، بحكم طبيعة الوفد الزائر المصبوغ سياسة أكثر منه عسكر. أضف إلى ذلك، أن روسيا، وفيما لو أرادت مناقشة “انسحاب حزب الله من سوريا” لكانت لجأت إلى “غرفة العمليات العسكرية المشتركة في سوريا”، المخوّلة بتّ هكذا قضايا، ولروسيا حضور فيها، والتواصل والتنسيق مع الحزب قائم هناك عبر ضباط ارتباط بين الجانبين، وطريق العلاقة في الميدان أسهل مسافة وأقل تعباً. و”حزب الله”، وفي أدبياته المعروفة لدى الجميع، لا يُناقش أموراً تتصل بشؤون عسكرية عبر وفود سياسية. بهذا المعنى، يرتفع احتمال البحث عن مخارج سياسية متصلة بوضعية الداخل اللبناني، إذ تجد القيادة الروسية مصلحةً في بحثها مع الحزب عبر الوفد الزائر، في ضوء تولّي موسكو جانباً تنفيذياً من المبادرة الفرنسية، بتفاهم مشترك مع باريس.