عبادة اللدن – أساس ميديا
نعِمت الليرة بثمانية أشهر من الهدوء النسبي منذ تموز الماضي، قبل أن تبدأ الموجة الثانية من التراجع، فيما أهل السلطة يبدون قدرًا مريعًا من قلّة الدراية وسوء التدبير، في لحظة شديدة الحساسية.
رئيسٌ يقول إنّ ارتفاع الدولار مريب وغير مبرر، وسلطة تلقي باللّوم على التطبيقات الهاتفيّة، بعد أن أضاعت سبعة عشر شهرًا منذ اندلاع شرارة الانهيار النقدي في 17 تشرين الأول 2019، بدّدت خلالها نصف الاحتياطي الذي كان لا يزال لدى مصرف لبنان، من دون أن تتّخذ خطوة واحدة لوقف انهيار الليرة.
الحرب على التطبيقات والصرافين حركة دونكيشوتية لا معنى لها. فما يحدّد السعر أولًا وأخيرًا، هما العرض والطلب، بل إنّ تعدّد التطبيقات يرفع كفاءة السوق من خلال زيادة المعلومات المتداوَلة، وكلما قلّ عدد التطبيقات أو عدد الصرافين، زادت القدرة على التلاعب بالسعر. ما يحدث أنّ السلطة ترى وجهها القبيح في مرآة التطبيقات فتقرّر كسر المرآة.
تبدو السلطة وكأنها تملأ فراغها بعراضات إعلامية، فيما هي مقتنعة بأنّ الأوان فات لفعل شيء في هذا الوقت المتأخر، بعد أن نفدت الدولارات، وفات الوقت اللازم للتفاوض مع صندوق النقد الدولي. ولم يبقَ في جعبتها إلّا الضغط على مصرف لبنان، ليستمر في شراء الوقت بالقليل المتبقّي من أموال المودعين لديه.
الأخطر أنّ البلاد دخلت دوّامة التضخم المفرط أو تكاد. وإن شاءت الدولة اللحاق بالتضخم عبر زيادة الرواتب لبعض الفئات، كما يقترح وزير المال السابق علي حسن خليل، فالعاقبة مزيد من التوسع في الكتلة النقدية بلا غطاء من العملات الصعبة، ما سيقود جزمًا إلى انهيار شامل لسعر الصرف.
هل ما زال بالإمكان فعل شيء؟
وضع الليرة اللبنانية اليوم أشبه بشاحنة بلا مكابح في رأس المنحدَر، قد تكون ثمّة فرصة أو شبه فرصة لإيقافها قبل أن يتسارع الانهيار ويخرج عن السيطرة.
الأسوأ لم يأتِ بعد، فما حدث حتى الآن أنّ سعر صرف الدولار تضاعف ستّ مرات تقريبًا خلال الأشهر العشرة الأولى من الأزمة، ثم هدأ لما يقارب ثمانية أشهر بعد ذلك، ولو عاد إلى وتيرة الانهيار في الأشهر العشرة الأولى، فمن الممكن أن يصل (نظريًّا) إلى ستة أضعاف ما كان عليه قبل شهر من الآن.
هناك من يجادل بأنّ سعر الـ12 ألف ليرة للدولار مبالغ فيه، وأنّ السعر العادل لا يتجاوز 7000 ليرة، بل هناك من يقول إنّه أقلّ من 5000 ليرة. ويستند هؤلاء إلى حجم معروض النقد بالمفهوم الأكثر اتساعًا (M4)، وقسمته على احتياطي الذهب والعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان. وهناك من ينزع من الحسبة الذهب لكونه غير قابل للتسييل قانونًا. لكنّ هذا الأساس النظري يفتقر إلى الأساس العلمي الصلب، لأسباب كثيرة أهمها:
– أنّ هذه الحسبة تقوم على خطأ جوهري هو عدم التمييز بين الاحتياطات وصافي الاحتياطات لدى مصرف لبنان. ففي مقابل المليارات الستة عشر المتبقية، يحمل مصرف لبنان مطلوبات للبنوك تفوق سبعين مليار دولار، فأين هي الدولارات التي يقسمون حجم الكتلة النقدية عليها؟
– أنّ أساس التقييم العادل في ظرف متأزم كهذا، لا يمكن إلا أن يأخذ في الاعتبار العجز المتوقع في الحساب الجاري، ولا يجوز في الوضع الراهن أن يستند إلى التقييم الدفتري لموجودات المصرف المركزي ومطلوباته في الميزانية العمومية، ببساطة لأنّ الأرقام تتغير بشكل كبير كل أسبوع.
– أنّ الطلب على الدولار ليس محصورًا بتمويل الاستيراد أو التحويلات إلى الخارج، أو تهريب أموال الفاسدين من سياسيين ونافذين في المصارف، بل إنّ الطلب الأخطر يأتي ممّن يريدون حفظ قيمة أموالهم (value store) عبر تحويلها إلى الدولار. وما دامت الثقة في الحضيض ستظل كل ليرة يضخّها مصرف لبنان، تتحوّل إلى طلب على الدولار. وبالتالي، لا يمكن توقّع سعر صرف الدولار من خلال الأساسيات. ولا بأس بالاتعاظ مما جرى في العشرية السوداء بين 1982 و1992 حين تضاعف سعر صرف الدولار بأكثر من 750 مرة.
لذلك، وفي ضوء خطورة اللحظة ما زال بالإمكان فعل شيء، ولا بد من فعل شيء، من هذه الحكومة المستقيلة، أو من حكومة جديدة تشكل قبل طلوع الفجر، لا من السلطة التي ابتدعها قصر بعبدا تحت مسمّى “الاجتماع المالي الاقتصادي الأمني القضائي”!
ما يجب فعله الآن هو اتخاذ إجراءات عاجلة وقاسية يُحَدَّد مداها الزمني بستة أشهر، تكون كافيةً لتشكيل حكومة وبدء التفاوض مع صندوق النقد الدولي، للحصول على تمويل عاجل لعجز الحساب الجاري. هذه الإجراءات تشمل:
1- إصدار وزارة المالية سندات سيادية بالعملة الأجنبية (يوروبوندز) بقيمة 1.5 مليار دولار لأجل ثلاث سنوات، بفائدة ميسّرة يكتتب فيها مصرف لبنان. تستخدم حصيلة هذا الإصدار حصرًا لتتولى الدولة بنفسها استيراد ثلاث فئات من السلع حصرًا: القمح وأدوية الأمراض المزمنة وفيول كهرباء لبنان.
هذه السندات تخدم غرضين: فمن جهة يقدّم مصرف لبنان الدولارات من احتياطاته السائلة، لكنها تبقى في قائمة موجوداته في صورة دين على الدولة محدد الأجل، فلا تتسع الفجوة في ميزانيته (دفتريًّا). ومن جهة أخرى، يكون هذا الإصدار بمثابة سقف محدد لفاتورة الدعم للأشهر الستة المقبلة، لا تستطيع الدولة تجاوزه. وعندها يكون السياسيّون أمام مسؤولية توفير التمويل الخارجي من صندوق النقد الدولي والجهات المانحة الأخرى خلال هذه الفترة، وإعادة ترميم احتياطي مصرف لبنان بعد توفير التمويل الخارجي والبدء بتنفيذ خطة الإصلاح.
2- يتلازم ذلك مع نقل ملف الدعم بالكامل من مصرف لبنان إلى الحكومة، ليتوقف استخدام توظيفات البنوك الإلزامية لدى مصرف لبنان، التي هي كل ما تبقّى من ودائع الناس لدى البنوك.
3- يجب أن توقف وزارة المالية جميع أشكال الدعم، بما في ذلك المحروقات والسلة الغذائية، وتستثني فقط الطحين وأدوية الأمراض المزمنة والمستعصية، على أن يتلازم ذلك مع تفعيل شبكة الأمان الاجتماعي والبدء بصرف المعونات النقدية للأسر من قرض البنك الدولي.
4- تتولى الدولة استيراد فيول “كهرباء لبنان” من حساب سلفة الخزينة للمؤسسة، وتُرفع تعرفة الكهرباء بنسب كبيرة، باستثناء الشريحة الأولى للاستهلاك.
5- وضع قيود مشددة على استيراد قائمة موسعة من الكماليات لستة أشهر، ريثما يتم التفاوض مع صندوق النقد الدولي، لاحتواء العجز التجاري خلال هذه الفترة.
6- تحديد مهلة ستة أشهر لرفع الحد الأدنى للأجور وزيادة رواتب القطاع العام، بمبلغ مقطوع لا بنسبة مئوية، على أن يكون ذلك متلازمًا مع البدء بإصلاح نظام سعر الصرف تدريجيًّا، وإقرار خطة الإصلاح الهيكلي.
هذه الإجراءات سيكون ثمنها الاجتماعيّ قاسيًا على معيشة الناس، لكنّ الثمن الاجتماعي للانهيار الشامل الوشيك لليرة، آكبر وأخطر. ثمة باب موارب لكسر حلقة الطلب الجهمني على الدولار، أو إبطائها على الأقل، لكنّ الأمر يحتاج إلى سياسيين فدائيين يحملون كرة اللهب.