منذ نشأة “حزب الله” مطلع ثمانينات القرن الماضي، مع وصول مجموعات من “الحرس الثوري” الايراني الى بعلبك في إطار تصدير “الثورة الإسلامية” التي قامت في إيران عام 1979 بقيادة الامام الخميني، وخروجه الى العلن رسمياً عبر اطلاق بيانه التأسيسي في 16 شباط 1985 الذي أكد فيه أنّه “ملتزم بأوامر قيادة حكيمة وعادلة تتجسد في ولاية الفقيه، وتتجسد في روح الله آية الله الموسوي الخميني مفجر ثورة المسلمين وباعث نهضتهم المجيدة”، تغيّرت مقاربة “الحزب” للعلاقة مع الدولة اللبنانية ومع العالم في الشكل، ولكن لم يتبدّل ولاؤه في المضمون.
شكّل العام 1991 تاريخاً مفصلياً في توجهات الحزب حيث قرّر التعاطي مع الدولة اللبنانية للدخول في الحياة السياسية مشاركاً برجالاته المعمّمين في مجلس نواب عام 1992، وذلك عقب إجبار الأمين العام الأول للحزب الشيخ صبحي الطفيلي على الاستقالة من منصبه الذي تولاه عام 1989 وتولي السيد عباس الموسوي المنصب لتسعة أشهر فقط بسبب إغتياله من قبل إسرائيل في عام 1992 واستلام السيد حسن نصرالله القيادة.
بالتوازي بدأ الحزب يحيك تدريجياً علاقاته الدولية بالتناغم مع توجهات الجمهورية الاسلامية الخارجية. ومراحل عدة مرّت بها علاقة “حزب الله” بروسيا قبل إنهيار الإتحاد السوفياتي وبعده. فهي بدأت متوترة في الزمن السوفياتي يوم كان “الحزب” في خضم طرحه الإيديولوجي الراديكالي “الخام” والبعيد عن أي لغة ديبلوماسية أو مقاربات سياسية، حيث كان يرفع شعار “لا شرقية ولا غربية إسلامية إسلامية”. فشهدت الساحة اللبنانية مواجهات دموية بينه وبين “الحزب الشيوعي اللبناني” الذي كان يشكل إمتداداً سوفياتياً في المعادلة المحلية، فضلاً عن خطف الديبلوماسيين السوفيات الأربعة في بيروت عام 1985.
مع إنهيار الإتحاد السوفياتي نهاية العام 1991، غرقت روسيا في ترتيب واقعها الجديد في ظل تفكك جمهوريات الاتحاد. إلّا أنّ وصول فلاديمير بوتين الى رئاستها عام 2000، أعطى بعداً جديداً للسياسات الخارجية الروسية بما فيها في منطقة الشرق الأوسط. تعززت علاقة “حزب الله” مع الروس في ظل تبلور محور جمع ايران بروسيا، وتكشّف عمقها عبر إستخدام “الحزب” صواريخ “كورنيت” الروسية الصنع المضادة للدبابات في حرب تموز 2006. ثم شهدت هذه العلاقة “معمودية دم” في الحرب السورية حيث كان التنسيق الميداني المباشر.
علاقة “حزب الله” مع فرنسا لم تكن أفضل قبل العام 1991، حين شهدت بيروت تفجير مقر كتيبة المظليين الفرنسيين في 23 تشرين الأول 1983 وقتل يومها 58 جندياً فرنسياً وكذلك خُطفت رهائن من الجنسية الفرنسية، وقد وجهت أصابع الاتهام نحو “حزب الله”.
مع الوقت، أصرّ اللاعب الفرنسي على التمايز عن المحور الغربي في العلاقة مع إيران خصوصاً في مقاربة ملفها النووي وكذلك مع “حزب الله”، فلم يصنفه إرهابياً كحلفائه الغربيين بل ميّز بين الجناحين السياسي والعسكري. كما أن القنوات الفرنسية مع حارة حريك ظلت مفتوحة حيث أصرّت باريس في إطار لعب دورها التاريخي في لبنان، على الانفتاح على جميع الأفرقاء وتقريب وجهات النظر بينهم.
شكّل التواصل بين السلطة الفرنسية وقيادة “حزب الله” علامة فارقة من مؤتمر “سان كلو” لجمع الافرقاء اللبنانيين – الذي إستضافته على أرضها في تموز 2007 – الى لقاء قصر الصنوبر عشية الأول من ايلول 2020 – عقب فاجعة انفجار مرفأ بيروت في 4 آب والمبادرة الفرنسية المرفقة بخريطة طريق.
اليوم في ظل تعثّر المبادرة الفرنسية جرّاء نجاح الأفرقاء اللبنانيين بزجّها في دهاليز مصالحهم الضيّقة، ثمة حراك روسي لافت أكان لناحية زيارات مستشاري بعض المسؤولين اللبنانيين للعلاقات الروسية الى موسكو أو لقاء رئيس الوزراء المكلف سعد الحريري مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في أبو ظبي الثلثاء الماضي أو زيارة رئيس كتلة “الوفاء للمقاومة” النيابية محمد رعد على رأس وفد موسكو، مع العلم بأنّها ليست الأولى بل سبقتها زيارة رسميّة في أواخر عام 2011.
وقد أعلن رعد بعد لقائه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إنّ “البحث تناول الوضع الحكومي و”حزب الله” حريص على ضرورة الاسراع في تشكيل الحكومة”. كما أوضح في حديث الى وكالة “سبوتنيك” الروسية أن “الدعوة تهدف إلى إعادة فتح النقاش حول آفاق المرحلة المقبلة بعد ما تحقق من إنجازات لمصلحة شعوب المنطقة في المرحلة الماضية”.
وهنا بيت القصيد “آفاق المرحلة المقبلة”، فـ”حزب الله” ومهما كابر، فهو يتلمّس بقلق متغيّرات عدة من حوله والروسي لاعب رئيسي في بعضها:
1- التطبيع الخليجي مع إسرائيل الذي إنطلق عام 2020 مع الامارات والبحرين. كما شهد العام الماضي تطبيع السودان مع إسرائيل وهو الذي كان يتردد لأنّ أراضيه تستخدم لتهريب أسلحة إلى قطاع غزة.
2- انتظام قطر مع إنتهاء الأزمة التي كانت بينها وبين دول الخليج مطلع العام الحالي ومشاركتها في أعمال القمة الخليجية الـ41 وما رافقها من “إعلان العُلا”.
3- تبادل أسرى بين سوريا وإسرائيل عبر وساطة روسية في شباط الماضي وتعدّ هذه العملية الثانية خلال عامين. ففي عام 2019، سهّلت موسكو إعادة رفات الجندي الإسرائيلي زاكاري باومل الذي كان مفقوداً منذ عام 1982 في عملية ضد الجيش السوري في سهل البقاع.
4- الغارات الاسرائيلية المتواصلة على مواقع لـ”حزب الله” والايرانيين في سوريا والتي لا يمكن أن تتم إلّا بغض طرف روسي مقصود.
5- الحركة الناشطة على خط موسكو – الرياض والتي تمثلت بالاتصال الهاتفي بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وولي العهد السعودي محمد بن سلمان وقد تمحور حول الوضع في سوريا ومنطقة الخليج. كذلك الموقف السعودي المتقدّم عبر اعلان وزير الخارجية فيصل بن فرحان في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الروسي سيرغي لافروف في الرياض، إنّ المملكة تدعم أي جهود لعودة سوريا إلى “حضنها العربي” وحريصة على التنسيق مع الأصدقاء الروس ومتفقة معهم على أهمية إيجاد مسار سياسي يؤدي إلى تسوية واستقرار الوضع في سوريا.
6- مؤشرات داخلية، سواء بشأن الانطباع بأن الروسي يعزّز مروحة علاقاته مع كل الافرقاء اللبنانيين أو بشأن حركة بعض حلفاء “حزب الله” الذين يعيدون بسلاسة تموضعهم فينفتحون على الامارات فيما هي تطبّع مع اسرائيل. أضف الى ما يحكى عن مساع عونية لكسر الحصار الدولي على رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل بعد العقوبات الاميركية بحقه عبر محاولات الانفتاح على الخليج، وفي مرحلة أولى المهادنة، وربما تندرج اقالة الاعلامي جورج ياسمين من الـotv جراء ادارته حلقة نارية ضد السعودية وزيارة مستشار الرئيس الوزير السابق سليم جريصاتي، في هذا السياق.
لذا ينظر “حزب الله” بقلق الى المرحلة المقبلة. فهو يتخوّف من تمدّد الدور الروسي الى الساحة اللبنانية من باب تشكيل الحكومة وكسر معادلة “الكلمة الاولى في سوريا لروسيا ولـ”حزب الله” ومن خلفه إيران في لبنان”. لذا يفضّل مبادرة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، اذ لا تداعيات بالمباشر عليه مقارنة بأي دور متعاظم لروسيا.
كما أنّ “حزب الله” خير من يدرك أنّ تدخل روسيا في الحرب السورية جعلها تمسك بأوراق اللعبة السياسية وذلك على حساب الايراني وحلفائه، ويتخوف من أن يتم ترتيب الملف السوري على حسابهم أيضاً.
لكن المقلق أكثر هو احتمال تطبيع سوري مع إسرائيل وسيكون الروسي حكماً عرّابه. فإن اعتبر بعضهم أن حظوظ هذا الطرح قليلة جداً، فهو يشكّل لعبة “روليت” روسية برأس “حزب الله” و”رصاصة التطبيع” إن أطلقت ستأتي على حساب دور “الحزب” وإيران في سوريا وستقطع الارتباط الجغرافي بينهما وتشكّل ضربة موجعة لحلف الممانعة.