ليبانون ديبايت – علي خيرالله شريف
صدر قانون الضمان الاجتماعي بتاريخ 26 أيلول 1963 بموجب مرسوم رقم 13/955 عن حكومة الرئيس المرحوم رشيد كرامي(وكان وزير مالية أيضاً) التي كانت تتمتع بصلاحيات استثنائية في عهد الرئيس فؤاد شهاب. وهو قانون أساسي يخضع الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي لأحكامه، وأي تعديل عليه يتم مباشرةً من خلال تعديل مواده، وليس بقانون موازنة مؤقت مدته سنة مالية واحدة(كما هي الحال في مشروع قانون الوزير غازي وزنة للموازنة العامة للعام 2021).
للضمان الاجتماعي أكثر من أربعة آلاف مليار ليرة لبنانية ديون في ذمة الدولة اللبنانية، متراكمة منذ سنواتٍ طويلة، وهو في أزمة مالية خانقة تهدد قدرته على تلبية حاجات المواطنين المنتسبين إليه والبالغة نِسبتُهم حوالي ثلث سكان لبنان، من الطبقتين الوسطى والدنيا. وزراء المالية المتعاقبون من الحكومات السابقة، لم يسددوا متوجبات الصندوق المالية القانونية منذ عدة سنوات، وهم لا يكترثون لحالة الضمان الـمُزرية، مع أن عدة قوانين للموازنة قد صدرت، تحدد طريقة دفع هذه الأموال، ولكنها بقيت حبراً على ورق، وآخرها كانت المادة 71 من القانون رقم 144 تاريخ 31 تموز 2019(والتي نصت على أن الديون المتوجبة على الدولة للضمان لغاية نهاية العام 2018 تُسَدد بالتقسيط على عشرة أقساط متساوية، على أن يُدفع القسط الأول نهاية أيلول 2019). لقد كان على وزير المالية “الاختصاصي” كما يسمونه، تطبيق القانون بدل أن يُقدِمَ على اقتراح المادة 96 من مشروع موازنته فيلغي بأحكامها أموال الضمان عبر تقسيطها على عشرين سنة.
إن الأموال المتوجبة على الصندوق للمضمونين والمستشفيات من معاملات متأخرة، هي كبيرة جداً؛ فإذا أضفنا إليها ارتفاع كلفة الطبابة، والتدني المتسارع لقيمة الليرة اللبنانية في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية وأزمة كورونا، وتضاؤل إمكانياته بشكلٍ تدريجي، نرى أن الصندوق يسير نحو الانهيار. ويُضافُ إلى ذلك ما نعرفه من فساد وشوائب إدارية ومالية متجذرة تنخر أجهزة الضمان وتزيد فيه الطين بِلَّة.
فبينما يعترينا القلق الكبير من كل هذا على مستقبل المؤسسة العامة الوحيدة التي تخفف عن كاهل المواطنين، يُفاجئنا وزير المالية غازي وزنة برفع مشروع قانون الموازنة العامة للعام 2021 مُقترِحَاً فيه تقسيط الديون المتوجبة للصندوق على الدولة لمدة عشرين سنة، وتخفيض غرامات التأخير بنِسَبٍ تتراوح بين 90 و 100%، وتحويلها إلى سندات خزينة ثم تخفيض الفائدة على هذه السندات إلى النصف، أي بتطبيق تمييز طبقي ظالم على الضمان يحرمه من حقه بنسبة فائدة متساوية مع باقي المكتتبين في سندات الخزينة، من أثرياء ورجال أعمال وأمراء، الذين يحصلون على كامل نسبة الفائدة، بعكس صندوق الضمان.
وهو لم يتوقف عند هذا الحد، بل أوصى بفرض ضريبة على إيرادات الصندوق بنسب تتراوح بين 1% و 2%، وهذا يخالف المادة 67 من قانون الضمان التي تنص على إعفائه من جميع الضرائب نظراً لكون أمواله عمومية. ويُعتبر فرض هذه الضرائب بمثابة تجاوز ارتكبه معالي الوزير لقانون تأسيس الضمان الإجتماعي. ولو أراد مجلس النواب أن يُحاسبه لسارع إلى سحب الثقة من الوزير بسبب هرطقته القانونية تلك. والطريف بالأمر أن السيد وزنة هو وزير اختصاص؛ فإذا كانت هذه نتيجة اختصاصه، قمحاً سنأكُل ووطناً سنبني.
لا أريد أن أُثقلَ عليكم بالتفاصيل الـمُمِلَّة، ولكن من يستعرض مواد مشروع الموازنة الذي قدَّمَهُ وزير المالية السيد غازي وزنة، لا سيما المواد 36 و37 و 75 و83 و 84 و93، يرى بأم العين المصائب التي أدخلها معاليه للقضاء على الضمان الإجتماعي، والتي لا تبدأ بإتاحة الفرصة لأصحاب العمل أن يتهربوا من تسديد الاشتراكات عن أجرائهم لصندوق الضمان، ولا تنتهي بتقسيط المستحقات على عشرين سنة(كما ورد في المادة 96 من المشروع). بهكذا مشروع موازنة ستختفي أموال الصندوق، وسيأكلها الزمن ويسحقها التضخم ويُبَخِّرها انهيار سعر الليرة، ويصبح عندئذ الضمان أثرٌ بعد عين.
بدل أن يُصلِحَ السيد غازي وزني، العضو في حكومة تشكلت لمواجهة التحديات، ما أفسده بعض الوزراء السابقين بتخَلُّفِهِم عن التسديد، نراه يحذو حَذوَهُم، بل يتفوق عليهم في إشهار مِقصَلَتِهِ بوجه الضمان الاجتماعي. فكما فعل بالالتفاف على التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، ها هو يسعى إلى تجفيف مصادر تمويل الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي لكي يراه يترنَّح ثم ينهار. فعل ذلك دون أن يتشاور مع طَرَفَي الإنتاج؛ العمال وأصحاب العمل، ودون أن يحترم اتفاقيات العمل الدولية التي تدعو إلى التشاور الاجتماعي، فتجاوز الحوار الثلاثي بين أصحاب العمل والاتحاد العمالي العام(كممثل للعمال)، والدولة. نضيفُ إلى ذلك أن معاليه يُمَدِّدُ صلاحية براءة الذمة للمؤسسات، وهذا يعني السماح لهم بتأجيل المتوجب عليهم للصندوق إلى إشعارٍ آخر.
ينص مشروع الوزير وزني في المادة 84 منه، على أن تتولى الدولة تسديد الاشتراكات الـمُتَرَتِّبة للصندوق بفروعِهِ كافة، لمدة سنتين، عن العمال والـمُستَخدَمين والأجراء، بقرارٍ من وزيرَي المالية والعمل، وهذه المادة تُعتَبَر مؤذية جداً للضمان، لماذا؟
أولا: لأن قرارين مشابهين قد صدرا في موازَنَتَي 2018 و 2019، وبنفس الصيغة، ولكن لغاية اليوم لم يصدُر أي قرار من الوزراء المتعاقبين بالتسديد، وهذا يعني أن قرشاً واحداً لن يُسَدَّد للضمان جرياً على عادة الوزراء المخضرمين.
ثانياً: يُعتبر ذلك تحميلاً للدولة أعباء إضافية ثقيلة فوق أعبائها الثقيلة التي تنوء تحتها، وفوق الأزمات الاقتصادية التي تحيط بها من كل حدبٍ وصوب. كما درجت العادة أن لا تسدد الدولة إشتراكات أجرائها أصلاً، فكيف يا تُرى ستسدد إشتراكات غيرها؟
إن مشروع قانون الموازنة الـمُقَدَّم من الوزير وزني يحرم صندوق الضمان من إيراداته بشكلٍ نهائي. وأنا أسأل معالي الوزير: هل أن الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي يطبع أموالاً خاصة به لكي تحرمه حضرتُكَ من الأموال المستحقة له؟
نناشد الرؤساء الثلاثة، والنواب الـمُحترمين، حماية الضمان الاجتماعي من موازنة وزني، وهذا واجبُهم أمام من انتخبهم، لأن الـمُضِي بمشروع تلك الموازنة بصيغته الواردة، سيكون بمثابة جريمة تُرتَكَب بحق ثلث سكان لبنان من الطبقتين الوسطى والفقيرة، اللتين باتتا تعجزان عن تأمين حبة دوائها، وعن الحصول على قرشها المتبقي لها لتعويض نهاية الخدمة وتعتبره الذخيرة الأخيرة التي قد تعينها على توفير لقمة شيخوختها.
ولا نظن أن دولة الرئيس حسان دياب يرضى أن يقوم وزيرٌ من حكومته بتشويه سجلها الأبيض بهكذا صفحةٍ قاتمة بحق مواطنين يعولون الكثير على رجال الدولة الحقيقيين الذين “لا يريدون شيئاً لأنفسهم إنما يريدون كلَّ شيءٍ للوطن وللمواطن”.