“ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح
بالسَوط، يضرب الدولار ظهور اللبنانيين بلا هوادة. بعدما أمسينا على سعر استقرّ عند عتبة ١٠،٤٠٠ ليرة للدولار الواحد، أصبحنا على تسلّق “الرفيق الأخضر” منحدرات مالية شاهقة تجاوزَ ارتفاعها ١١ ألف قدم، والحسابة “بقيت تحسب” حتى منتصف الليل، حيث سجّل آخر سعر تداول عند ١١،٨٠٠ ليرة!
هكذا، يُراد لنا أن نصدق أن لا عوامل “غير طبيعية” تستحوذ على تسعير الدولار، وإن السياسة من الجريمة براء! وفي ظلّ تأكيد أكثر من خبير مالي، أن تسعيرة الدولار “الإقتصادية”، عطفاً على أحوالنا الراهنة، لا تتجاوز في أسوأ أحوالها سقف ٥٠٠٠ ليرة، يُصبح أن سعر ١١،٠٠٠ وطلوع ما هو إلا سعر وهمي وسياسي صَرف يُراد إسقاطه على اللبنانيين لقهرهم، أو لتمرير أهداف ما، عملًا بقاعدة، لا حواجز تقف حائلاً أمام قفز الدولار إلى مستوى ١٣،٠٠٠ ليرة خلال الأيام المقبلة!
هنا بالضبط، لا مجال لإصدار إعفاءات سياسية عن المتسبّبين في هذا الخلل الدولاري البنيوي، تماماً كما لا مجال لإعفاء الإرتفاع المشبوه عن رزمة تساؤلات باتت تحضر. فما معنى أن يرتفع الدولار فجأة ما نسبته ١٤٠٠ ليرة دفعة واحدة خلال ٢٤ ساعة، اي بعد ساعات فقط على تسريب طلب النائب العام التمييزي القاضي غسّان عويدات مساعدة قضائية خارجية (أميركية تحديداً) تقضي بالعمل على حجب المواقع الإلكترونية التي تتعاطى تحديد سعر صرف الدولار مقابل الليرة في السوق السوداء؟ وما معنى أن يبلغ الإرتفاع هذه الحدود قبيل ساعات من “الدعوة العامة” للإحتشاد في الساحات رفضاً للسياسات؟ وما معنى أن يحضر الإرتفاع ضيفاً على جيوب اللبنانيين بُعَيد ساعات من مغادرة “حضرة الحاكم” إلى الربوع الفرنسية؟ وماذا يعني ارتفاع الدولار عقب إعلان معاون رئيس مجلس النواب النائب علي حسن خليل “زَودَة المليون” لحساب العسكر، رغم أنها لم تُبرم بعد، وأُحيلت إلى اللجان للمزيد من الدرس؟ وهل أن ثمة محاولة لـ”تلصيق الإنهيار بالعسكر” بعد المحاولات المُكدّسة لإلصاقهم تهمة رعاية إقفال الطرقات ومحاولة اقتحام السياسة من أوسع أبوابها؟
عملياً، ثمة من يقدّر، أن هناك من يُمارس الإبتزاز ليس فقط المضاربة بحق الليرة، من زاوية خطوة مدعى عام التمييز آنفة الذكر. وعلى ذمة أوساط مالية، هناك من يريد توجيه رسالة إلى عويدات عنوانها: “حسنًا، تريد طلب مساعدة دولية للحدّ من الإرتفاع، هاتِ خذ ارتفاعاً وسنرى”. من هنا، تولّدت شكوك حول ضلوع طرف “أو جهة” ما في الدفع صوب إجبار عويدات، وعموم القضاء المتّخذ صفة ملاحقة المتلاعبين، على التراجع، ومن ثم تسخير التلاعب في تسعير الخطاب السياسي. وبدأت تتّضح الأدوار السياسية، فبدل أن ينبري القضاء نحو إعداد ما استطاع للمنصّات، وبدل اللجوء إلى الأميركيين المتهمين قبل غيرهم باستخدام الدولار أداةً لانتزاع ميول “عنيفة” من اللبنانيين إنفاذاً لأوامر سياسية، عليه بالسياسيين أولاً وأنسابهم من مصرفيين وصيارفة ومُرابين.. إلخ، المسؤولين الحقيقيين عن قتل الليرة.
من هذه المشهدية حيث محاولات تهبيط معنويات اللبنانيين، تتسلّل محاولات مشابهة لتلك، هادفة إلى إحباط عزيمة العسكر، في ضوء “الرَكّ” على قضية “أزمة الرواتب” في الأسلاك وتضرّرها من جراء التلاعب بسعر الصرف. و “الرَكّ”، على هذا النحو، “لا يمكن تفسيره إلا في سياق محاولات التلاعب في نفسية العسكريين وتقليب آرائهم، وصولاً نحو دفعهم إلى الإنسحاب من الأسلاك، بالإعتماد على سياسة التخويف نفسها التي يتمّ استخدامها من أجل دفع اللبنانيين نحو سلوك درب الهجرة”، كما تقول أوساط متابعة.
وفي هذا المجال، تحضر ثقافة “الشحادة على ظهر العسكر”، أي الخاصّية نفسها التي تعتمدها طبقة الـ١٪ على نيّة شَحد الدولارات وأموال المساعدات من الخارج و”دسّها” في الجيبة، أو الحسابات الخارجية كما درجت العادة. هذه المرّة يأتي كار الشحادة من نصيب العسكريين، علماً أن أحداً من بينهم لم يطلب أن يبادر أحد ما إلى تلبيسهم هذا اللبوس “المُهين”، وإظهارهم كأنهم حفنة من “عبيد المال” الذين يجرون خلف العملة. فمن موقعهم الأساس، هم عناصر أقسمت على صون الوطن والحفاظ عليه وعلى ديومة أمنه، وليس السعي خلف المال الذي يُمنَح إليهم على قاعدة تسيير شؤون حياتهم وليس لقاء تأمين الحماية للبلد، وهي مهمة جميع المواطنين. ثم أن تكريس “خطاب الشحادة” على هذا النحو المؤذي، والضرب الدائم على فكرة تآكل سعر صرف الليرة، وانعكاس ذلك على العسكريين، على قساوته، غايته الظاهرة زرع اليأس في صفوفهم، والمضمرة حرفهم بإتجاه تأمين “تأشيرات” الهجرة من الأسلاك، ولعلّ الأسوأ يتخطى ذلك نحو تعزيز معنويات العصابات على ظهر تدمير معنويات العسكر، إذ يصبح أن هؤلاء يجدون أنفسهم أحراراً في العمل في ظل تراجع عزيمة الأمن، وهو ما يعني حكماً ارتفاع نسب الجريمة مقابل تهاوي الإستقرار، فهل المطلوب تحويل البلاد إلى مزرعة خارجة عن مفهوم الأمن والقانون؟
من هذا المنطلق، لوحظَ أن الإهتمام بقضية “فرار العسكريين” من خدمتهم تعاظمَ خلال الفترة الماضية، وقد بُنيَ ذلك على أسباب بمعظمها مالية بطبيعة الحال، علماً أن جانباً من الفارّين لا يمكن تسجيلهم تحت خانة “الخروج من السلك لأسباب مادية بل مسلكية”، وقد تمّ غضّ النظر عن هؤلاء مقابل الإضاءة على الحالات الباقية، تماماً مثل غضّ النظر عن طلبات الإسترحام المقدّمة لدى قيادة الجيش مثلاً، والتي تنظر فيها في سبيل إعادة ضمّ من يستوفي الشروط إلى الأسلاك العسكرية. وفي وقتٍ يسري الحديث عن الفرار، لوحظ أن طلبات الترفيع من رتبة مجند إلى جندي شهدت حيوية بدورها. وبالإستناد إلى نفس القاعدة، وفيما لو قدُّر للدولة إعادة فتح أبواب التوظيف، لكانت الأسلاك العسكرية قد شهدت على موجة نزوح إليها، وليس منها، ويعود ذلك إلى الإستقرار في تسديد الرواتب “رغم تآكلها”، إلى جانب لَحظ مساعدات آخرى إلى العسكريين.
عملياً، لا يجدر أن تُعتَبر مسألة الفرار من السلك عند حصولها، قضية خارجة عن المألوف، وعادة ما تشهد الجيوش على حالات مماثلة، بل على الأغلب تُعدّها الجيوش حول العالم مسألة إيجابية لكونها “تنقّي الأسلاك من العناصر الضارة”. كذلك، لا يعني أن فرار عسكريين، مسألة قد تقوّض من حضور الجيش، أو تؤدّي إلى تهديد بنيته، طالما أنها مسألة محدودة وشكلية. فالمؤسّسة العسكرية التي بُنيت وفق قواعد جديدة بعد الحرب، رسّخت العقيدة بدل الولاء الفردي، ولذلك، لا يجدر اعتبارها ذراعاً عسكرية لأحد، سواء كان سياسياً أم عسكرياً، ومحال أن تكون كذلك. ومن هذا المنطلق، تعمّد قائد الجيش العماد جوزاف عون في حديثه الأخير، إلقاء الحِجّة على السياسيين لتحمّل مسؤولياتهم تجاه المؤسّسات العسكرية والأمنية، لا التأسيس لتحوّله إلى سياسي. رغم ذلك، أُخذ حديثه في سياق آخر مغاير كلياً ومردود إلى حساسية البعض حيال الإقتراب من موقع الرئاسة!