الوقت- بعد تطبيع السودان مع الكيان الصهيونيّ الغاصب في 23 أكتوبر/ تشرين الأول المنصرم، ودخول القرار الأمريكيّ برفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب حيز التنفيذ، بعد أن عرضت إدارة الرئيس الأمريكيّ السابق، دونالد ترامب، ما يصل إلى 850 مليون دولار لضحايا الهجمات الإرهابيّة وإجبار الخرطوم على دفعها، وما تلى ذلك من تدشين ائتلاف “القوى الشعبيّة السودانيّة لمقاومة التطبيع مع العدو المجرم، جددت 14 من القوى السياسيّة السودانيّة من بينها أحزاب منضوية في “قوى الحرية والتغيير” المُسماة بـ (قحت) والتي تضم حزب البعث القوميّ السودانيّ، البعث العربي الاشتراكيّ، الوحدويّ الديمقراطيّ الناصريّ، والتيار الاتحاديّ الحر، رفضها لاستمرار الحكومة الانتقاليّة في التطبيع مع الكيان الصهيونيّ، مشدّدة على ضرورة تأجيل التقرير بشأن التطبيع وإيقاف كل الخطوات التي تتم سريّاً وبعيداً عن الشعب السودانيّ إلى حين انتخاب مجلس تشريعيّ كامل الصلاحيات، والكف عن تعريض مؤسسات الحكم الانتقاليّة للانقسام في هذا الوقت و المنعطف الخطير من تاريخ البلاد.
رغبة الشعب السودانيّ
بالتزامن مع إصرار الحكومة السودانيّة على معارضة النسق الفكريّ والعقائديّ لشعبها، الشيء الذي يمكن أن يقلب الطاولة على رؤوسهم ويجر البلاد إلى نفق من العنف والتخريب في أيّ لحظة، خاصة بعد الزيارة الصهيونيّة إلى السودان، بررت القوى السياسيّة السودانيّة رفضها للتطبيع لأنّه يخالف موقف السودانيين المبدئيّ، وبالإضافة إلى أنّ الكيان الصهيونيّ يستهدف وحدة البلاد منذ أمد طويل.
وفي الوقت الذي تشير فيه قوى الحرية والتغيير إلى أنّه لا يحق لأيّ جهة إجراء أيّ تحول بعيداً عن رغبة الشعب السودانيّ ومؤسساته المنتخبة، تؤكّد أنّ قرار التطبيع ليس من اختصاص مؤسسات الفترة الانتقاليّة ذات المهام المحددة، حيث إنّ اتخاذ ذلك القرار يجب أن يكون من اختصاصات مجلس تشريعيّ منتخب بطريقة ديمقراطيّة حرة ونزيهة.
والبرهان الأكبر على بيان “قحت” هو ما قاله رئيس الوزراء السودانيّ، عبد الله حمدوك، بنفسه عند لقائه مع وزير الخارجيّة الأميركيّ السابق، مايك بومبيو، بعد زيارته الأخيرة إلى العاصمة السودانيّة الخرطوم، بشأن الأوضاع في السودان ومسار العملية الانتقاليّة والعلاقات الثنائيّة بينهما ومساعي رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وحينها أوضح حمدوك، أنّ المرحلة الانتقاليّة في السودان يقودها ما أسماه “تحالفاً عريضاً” بأجندة محددة لاستكمال عمليّة الانتقال وتحقيق الاستقرار والسلام في البلاد، وصولاً للقيام بانتخابات حرة، وأكّد وقتها أنّ الحكومة الانتقاليّة في السودان، لا تملك تفويضاً يتعدى هذه المهام لاتخاذ القرار بشأن التطبيع مع العدو، مبيّناً أن هذا الأمر يتم حسمه بعد إكمال أجهزة الحكم الانتقاليّ.
وبناء على ذلك، تعتبر قوى الحرية والتغيير أنّ أيّ محاولة لتمرير التطبيع مع الكيان الصهيونيّ استناداً على توازن القوى الراهن، يمثل انتهازيّة سياسيّة مكشوفة، من خلال استغلال الظروف التي خلفها النظام المُباد اقتصاديّاً وسياسيّاً عوضاً عن العمل على مواجهتها باستنهاض إرادة التغيير لتمثل مواقف الشعب السودانيّ ومبادئه في الحرية والسلام والعدالة التي لا تتجزأ.
وبعد وقَوع رئيس المجلس السياديّ السودانيّ في فخ تصريحاته التي اعتبرت تطبيع السودان مع كيان الاحتلال المُستبد أمراً طبيعياً، مدعياً في وقت سابق، أنّهم تشاورا مع طيف واسع من القوى السياسيّة والمجتمعيّة ووجدوا عدم ممانعة فيما أسماها “إنهاء حالة العداء” مع المحتل للأراضي العربيّة وإقامة علاقات معه، في استسلام مُذل للإرادة الأمريكيّة، أكدت قحت أنّ ذلك هذا الأمر يفتح الطريق أمام دكتاتوريّة جديدة رأت أنها تقصي السودانيين عن قراراتهم المصيريّة، ونوهت على أنّ مؤسسات الحكم الانتقاليّة مهمتها المركزية، ايصال البلاد لانتخابات حرة ونزيهة في نهاية الفترة الانتقاليّة موضحة أنّ القرارات الاستراتيجيّة والكبيرة، تم التوافق على طرحها ومناقشتها في المؤتمر الدستوريّ، واتهمت بعض الجهات بأنّها تحاول الالتفاف عليه واستباقه.
ومن الضروري الإشارة إلى أنّ أحزاباً أخرى وقّعت على البيان المعادي للتطبيع بينها الجبهة السودانيّة للتغيير والحراك الطلابيّ الحر والحراك الجماهيريّ الحر وحوارات ومنبر للحوار وتبادل الأفكار ومركز التراث والثقافة الوطنيّة وتحالف النساء السياسيات السودانيات واتحاد النساء الديمقراطيّ السودانيّ واللجنة القوميّة للمفصولين من الخدمة المدنيّة وتجمع النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعيّ.
جبهة ضد التطبيع
عقب نجاح السودانيين في تشكيل جبهة ضد التطبيع مع الكيان الصهيونيّ الغاشم، أطلقوا في وقت سابق حملة لجمع مليون توقيع ضد تلك المسألة، ولاقت تفاعلاً واسعاً في الأوساط السودانيّة، وكما هو متوقع تتصاعد المشاركة في الحملات المناهضة للتطبيع يوماً تلو آخر بشكل كبير، وحتى اللحظة ما زالت الحملات المناهضة التطبيع مع الكيان الصهيونيّ تتخذ أشكالا سلميّة، في الوقت الذي تتزايد فيه المخاوف من اتجاه بعض الجماعات “المتطرفة” نحو أساليب العنف لوقف قطار الخيانة.
وفي ظل تصاعد الرفض الشعبيّ في السودان لهذه القضيّة، أعلنت أحزاب سياسيّة ومنظمات أهليّة وتكتلات إعلاميّة وشبابيّة وعلماء، عن تدشين ائتلاف “القوى الشعبيّة السودانيّة لمقاومة التطبيع مع الكيان الإسرائيليّ”، وحينها أوضح ممثل الائتلاف، دفع الله السر، أنّه لا مصلحة للسودان في التطبيع مع المحتل الذي جاء لسرقة موارد السودان.
وفي هذا الصدد، تؤكّد الجبهة المعاديّة للتطبيع والمكونة من 28 حزباً وتكتلاً ومنظمة، أنّ القضيّة لها أبعاد سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة، فيما تصر الحكومة السودانيّة على تصورها بأنّها قضيّة قمح ووقود تأخذ منه القليل مقابل بيع القيم السودانيّة، مكررين الدعوة لكل القوى السياسيّة الحرة في السودان أن ترفض الدخول في حظيرة التطبيع الأمريكيّة، لأنه سينصب على السودانيين دكتاتوراً لا يعترف بالحرية والديمقراطيّة، بحسب تعبير القيادي بحزب المؤتمر الشعبيّ طارق بابكر، الذي أشار إلى أنّ السودانيين يقفون مع فلسطين بكامل أراضيها وعاصمتها مدينة القدس، ولا يعترفون بتقسيمها شرقيّة وغربيّة.
بالإضافة إلى ذلك، يصف ميثاق جبهة “القوى الشعبيّة لمناهضة التطبيع مع الكيان الإسرائيليّ” التطبيع بأنّه محض صفقة مذلة معزولة تمت في الظلام، وتم استدراج السودان لها رغم أنفه، فيا ينص على أنّ القضية الفلسطينيّة عادلة لشعب احتلت أرضه وانتهكت مقدساته، وأنّ حقوق الشعب الفلسطينيّ ظلت محل إجماع الشعوب الحرة والشرائع الإنسانيّة كافة، وأنّ التطبيع مع الكيان الصهيونيّ يحقق نصراً معنويّاً وسياسيّاً لكيان محتل ظالم، وخذلاناً قاسياً لشعب مظلوم.
ويشار إلى أنّ وزارة الخارجيّة السودانيّة أعلنت الموافقة على تطبيع العلاقات مع الكيان الغاشم في 23 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وبذلك أصبح السودان البلد العربيّ الخامس الذي يوافق على تطبيع علاقاته مع تل أبيب، بعد مصر والأردن والإمارات والبحرين، وفي ذات اليوم أبلغ الرئيس الأميركيّ السابق، دونالد ترامب، الكونغرس نيته رفع اسم السودان من القائمة الأمريكيّة للدول الراعيّة للإرهاب، والتي أدرج فيها منذ العام 1993، بسبب استضافته وقتها رئيس تنظيم القاعدة الإرهابيّ أسامة بن لادن.
وفي ليلة الإعلان المشؤوم عن إعلان اتفاق العار بين تل أبيب والخرطوم، خرج السودانيون في تظاهرات غاضبة وسط إحدى الشوارع الرئيسة في الخرطوم، احتجاجاً على الخيانة التي ارتكبتها حكومتهم، بتطبيع علاقاتها مع العدو الصهيونيّ، وانتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، مقاطع مصورة بثها ناشطون، وجّه المتظاهرون فيها شعارات منددة بينها “اسمع اسمع يا برهان، لا تطبيع مع الكيان” ، كما رددوا: “لا تفاوض ولا سلام، ولا صلح مع الكيان” ، و “لا بنستسلم ولا بنلين.. نحن واقفين مع فلسطين”.
كذلك خرج السودانيون مراراً للمطالبة بتصحيح مسار ثورتهم وتحسين الأوضاع المعيشية الصعبة بالإضافة إلى رفض التطبيع مع العدو الصهيونيّ، بعد أن أعلنت وزارة الخارجيّة السودانيّة الموافقة على تطبيع علاقاتها مع تل أبيب في 23 أكتوبر/ تشرين الأول، وزعم رئيس الوزراء السودانيّ عبد الله حمدوك في ذلك الوقت، أنّ الحكومة ستوفي بمطالب الثورة، وحاولت قوات الأمن السودانيّة تفريق محتجين احتشدوا قرب القصر الرئاسيّ والبرلمان بالخرطوم، في حين أطلقت الشرطة السودانيّة قنابل الغاز لتفريق المتظاهرين الذين واصلوا احتشادهم ليلاً أمام القصر الرئاسيّ ومبني البرلمان بأم درمان.
ومما لا شك فيه أنّ الحكومة السودانيّة الانتقاليّة ستدفع ثمن غدر شعبها المنهك اقتصاديّاً رغم تصريحاتها المتكررة بأنّها لا تملك أيّ تفويض لاتخاذ القرار بشأن التطبيع مع العدو الصهيونيّ، بما يتعدى مهام استكمال عمليّة الانتقال وتحقيق الاستقرار والسلام في البلاد، وصولاً للقيام بانتخابات حرة، ورضخت لضغوط الإدارة الأمريكيّة التي خسرت الانتخابات، وارتكبت خطيئة يجمع الشعب السودانيّ على رفضها، ما خلق حالة من الغضب العارم في الأوساط السودانيّة، باعتبار أنّ حكومتهم بالاستناد إلى تصريحاتها غير مخولة لتتخذ مثل هذا الإجراء مع كيان مغتصب وعنصريّ وطائفيّ.
أيضاً، تواجه الحكومة السودانيّة ضغوطاً داخليّة شديدة منذ توقيع اتفاق الخيانة، ويخشى من انعكاس آخر التطورات على الشارع السودانيّ، بسبب رفض الطبقة المثقفة السودانيّة لأيّ علاقات مع العدو الغاصب باعتبارها “خيانة وطنيّة”، ليبقى السؤال الكبير دون إجابة، وهو هل سيدفع رئيس “مجلس السيادة الانتقاليّ السودانيّ”، عبد الفتاح برهان، ثمن خيانته التي لم يذكر الشروط الأمريكيّة- الإسرائيليّة عليها، حيث من المتوقع أن تثقل كاهل السودان وهي عبارة عن 47 شرطاً.