تأجيل “كابيتال كونترول” مجدّدًا: كيف خرجت 34 مليار $؟
ملاك عقيل -أساس ميديا
من خارج السياق ولائحة الأولويات، انعقدت جلسة مجلس النواب أمس لإقرار قرض البنك الدولي، “المُلاحق” بملاحظات نيابية من أجل حُسن استخدامه.
ديْنٌ إضافي على الدولة لا أحد في الجمهورية العظيمة قادر على تقديم تفسير مالي عن كيفية ردّه إلى الجهة المانحة، ولا الغاية من إقرار هذا القانون، من دون أن يترافق مع إقرار مشروع ترشيد الدعم للحفاظ على قيمة هذه الأموال.
علامات استفهام كثيرة أحاطت بقرض الـ246 مليون دولار، لجهة المصاريف التشغيلية والجهة الرقابية المخوّلة الإشراف على تنفيذه، وقاعدة البيانات التي لم تحدّد نهائيًّا بعد، ولماذا الدفع ليس بالدولار (كما هي قيمة القرض وليس بالليرة) ولماذا على سعر 6250 ليرة لبنانية للدولار، ومدى موافقة البنك الدولي على التعديلات التي طالت المشروع… كل ذلك لا يحجب الأساس.
هي بطاقة تمويليّة نقدية سيحملها المستفيد لشراء موادّ غذائية، مع مساعدات مباشرة للأسر المستهدفة صلاحياتها لعام واحد فقط. لكنها قد لا تختلف بنتائجها عن “المليون” المقترحة للأسلاك العسكرية. عسكر ومحتاجون ومواطنون يقبعون تحت خط الفقر، لن تجدي معهم كل الملايين وبطاقات الدعم ما لم يتولّ أحد ما في هذه الجمهورية، إيقاف جنوح البلد نحو الفوضى الشاملة. واقع سيزيد من التضخّم الناتج عن رمي كتلة نقدية كبيرة بالليرة في السوق، من دون تغيير بسيط في مؤشر انخفاض منسوب الأزمة المالية.
حتى إقرار قانون رفع السقوف لقروض الإسكان، قد لا يعكس الغاية منه في حال بقي الدولار متفلّتًا من كل الضوابط، وهو الأمر المرجّح أن يطول. نتاج مجلس النواب في ما يتعلق بكل أوجه المساعدات، لن يكون له فاعليّة من دون حكومة وإصلاحات وثقة دولية بفريق عمل السلطة في لبنان، وهو الأمر غير المتوافر حتى الآن. وبالتأكيد ليست سياسة “الاستعطاف والشحاذة” ما ينعش الحركة الاقتصادية ويردّ الخطر عن اللبنانيين، بل معالجة لبّ الأزمة.
وما وصفه قريبون من رئيس مجلس النواب نبيه بري بـ”جدول أعمال للجلسة يحاكي المتطلبات المعيشية للناس، وأمانهم الاجتماعي في عزّ الأزمة”، صنّفه التيار الوطني الحر بأنّه تهرّب من إقرار القوانين الأكثر إلحاحًا، على رأسها سلفة الخزينة لكهرباء لبنان بقيمة 1500 مليار، التي يرى نواب أنها لا تحتمل ترف الإحالة إلى اللجان المشتركة… وقانون كابيتال كونترول، وقانون استعادة الأموال المنهوبة…
لكنّ النائب علي حسن خليل رمى الكرة سريعًا في ملعب التيار الوطني الحر، قائلًا: “من يعتبر أنّ هناك ملفات مؤجّلة في مجلس النواب، هي عمليًّا اقتراحات قوانين متوقّفة في اللجان النيابية التي يترأسّها هؤلاء”، مؤكدًا “عدم وجود قانون مُنجز في مجلس النواب لم يتمّ وضعه على جدول الأعمال”ّ، ورافضًا “المزايدة على عمل المجلس”.
لكن عمليًّا، لا تفسير لعدم إدراج قانون ملحّ وحسّاس كـ”الكابيتال كونترول” على جدول أعمال الجلسة، بعدما انتهت اللجنة النيابية الفرعية من دراسته، وبعدما كان قد أعيد أحياؤه في أيار الماضي باتفاق سياسي بين رئيس مجلس الرئيس نبيه بري والنائب جبران باسيل، ليصطدم مجددًا بمعوقات حالت دون سلوكه طريق الهيئة العامة في مجلس النواب. كل يوم مرّ منذ 17 تشرين من دون قانون “كابيتال كونترول”، شهد تبخّرًا إضافيًّا للعملات الأجنبية في المصارف، وانعكاسًا مباشرًا على احتياطي مصرف لبنان.
كارثة هذا القانون، حتى لو افترضنا أنّه كان “نجم” جلسة أمس، أنّ إقراره “يومًا ما” لن يحقق الهدف المرجوّ منه، بعدما نجح المحظيّون في تهريب أموالهم إلى الخارج من دون رادع. حتى أنّ تعميم حاكم مصرف لبنان رقم 154 لم يؤدِّ غرضه والمتعلّق بإعادة نسبة 30% من الأموال المحوّلة من حسابات أصحاب المصارف، والمُساهمين وأعضاء مجالس إداراتها، والأشخاص “المعرّضين سياسيًّا” PEPs.
وفقًا لـ”الدولية للمعلومات”، فقد أدّى غياب “كابيتال كونترول” إلى خروج ودائع من المصارف بنحو 34 مليار دولار خلال عامي 2019 و2020، واستُخدمت في تسديد ديون وشراء عقارات وتحويلات إلى الخارج، وسحوبات كانت وجهتها المنازل. أما الأرقام التقريبيّة للتحويلات إلى الخارج فبلغت نحو 6 مليارات دولار.
كان يُفترض بأولياء أمر الدولة العميقة أن يسعوا الى إعداد بنوده وإقراره من دون تأخير بعد 17 تشرين، وإقفال المصارف حوالى أسبوعين. صُوّر القانون بداية على أنّه “بعبع” سيتعدّى على أموال كبار وصغار المودعين، ويؤثّر على النظام الاقتصادي الحرّ، ونجح الأمر. ما قاد إلى إسقاطه في مجلس لنواب، ليفرّخ مجددًا في اللجان حيث لا يزال قيد الاحتجاز.
هدف القانون تنظيم التحويلات إلى الخارج، وضبط المعاملات المصرفية بعدما عمدت المصارف إلى أبشع عملية “كونترول” على أموال المودعين، في استنسابية لم تعرف حدودًا وصلت إلى حدّ تمرّد المصارف على قانون صادر عن مجلس النواب حول الدولار الطلابي، ما يعرّضها للملاحقة القضائية.
وفي مفارقة لا تحدث إلّا في لبنان، لم يقف أحد بوجه المصارف ليسألها عن سبب مخالفة قانون صريح صادر بهذا الشأن، ولا حتى الحكومة ثأرت لنفسها باتّخاذ أيّ إجراء بحق المصارف، التي قفزت فوق القانون كأنه لم يكن. أما الفضيحة الأكبر فهو التدقيق الجنائي الذي عدّل مجلس النواب قانون رفع السرية المصرفية لتسهيل تطبيقه، لكنه عالق في خرم القرار السياسي المانع لتنفيذه، ولأن لا “رِكَب” لحكومة تصريف الأعمال كي تفرضه فرضًا.
جميع الدول المتعثّرة لجأت إلى خيار كابيتال كونترول كخطوة وقائية واستباقية إلّا في لبنان. والأنكى أنّ السلطة المقرّرة وضعته على نار حامية بعدما هرّبت المليارات إلى الخارج في “ضَرب” لا أخلاقي لم يعرفه تاريخ لبنان، ثم أطفأت النار مجددًا عن الطبخة. لا السلطة النقدية تريده كي لا تكبّل نفسها، ولا السلطة السياسية ضغطت لإقراره، مع أنّه أحد الشروط الأساسية لصندوق النقد الدولي.